على هامش «نسيان ما لا ينسى»

« إِنَّمَا أَنَا بشْر مِثْلكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ» حديث
كان هذا المقال ـ كما قدّرت له ـ فاتحة مقاربة لكتاب زميلي وصديقي الأستاذ العادل خضر»نسيان ما لا يُنسى»؛ وهو كتاب إمتاع ومؤانسة، إلاّ أنّني وقد أعدت قراءته، كنت مثل «أكلة اللوتس» في رواية جويس«عوليس»؛ إذ صرفني إلى عالم النسيان وما يستفيض به، ويحفل؛ كلّما انطلقت الذاكرة من عقالها، وتحلّلت من قيودها. وإذا المقال يفيض عن سقفه المحدّد له في «القدس العربي» ويربُو. وقلت أرجئ إذن مقاربتي لكتاب العادل إلى مقال مقبل، وليكن هذا النصّ توطئة له، ولصوره الممتعة.
يتهدّدنا النسيان، ويفسد كلّ ما نقوم به، ويأتي عليه. وربّما بسبب من هذا، نحن ننظر إليه من منظور سلبيّ. فهو نقص وخسارة ومحو ولَبس وحرمان وفوضى وإهمال. وقد ننسى أنّه شفاء لأنفسنا المنهومة، ومتنفّس لها أيضا؛ كلّما رابَنا من الدنيا ريب، وعرض لنا منها، ما يعرض للناس؛ فإذا بالنسيان يرتق بها فتقا، ويقوّم معوجّا، ويسدل على بعض ذكرياتنا ستائره، حتّى لا تهبّ من رقادها.
في تاريخ الغرب الأقدم، تستوقفنا الأوديسة من حيث هي ملحمة النسيان التي لا تُنسى؛ بطلها يوليسيس الذي يعيش في حاضر الناس ويعيشه؛ وهي على طرف النقيض من الإلياذة حيث «أخيل» زاهٍ في حاضر الملحمة الأبدي.
وفي رواية «عوليس»، لجيمس جويس وهو الكاتب الذي يستطيع أن يوقظ توت عنخ آمون، ويخرجه من وقاره، ويجعله يضحك عاليا، ويقفز مثل سمكة السالمون ( كما أخرجت ذبابة الجاحظ قاضي البصرة من وقاره)؛ يدور هذا الحوار بين ستيفن وبك مليكن:
«ـ هل تذكر اليوم الأوّل الذي ذهبت فيه إلى بيتكم بعد وفاة والدتي؟
تجهّم «بك مليكن» بسرعة وقال:
ـ ماذا؟ أين؟ لا أتذكّر أيّ شيء، أذكر فقط أفكارا وأحاسيس.. ماذا؟ ما الذي حدث بالله عليك؟
قال «ستيفن»: كنت تُعدّ الشاي، واجتزتُ بسطة السلّم لأجلب مزيدا من الماء الساخن. خرجت أمّك وزائرة ما من غرفة الاستقبال، وسألتك من الذي كان في غرفتك؟
قال «مليكن»: نعم؟ بماذا أجبتُها؟ لقد نسيتُ.
أجاب «ستيفن»: قلتَ آه، إنّه ديدالوس لا غير؛ الذي ماتتْ أمّه ميتة بهيمة»
وقول مليكن هو كما أثبت المترجم صلاح نيازي في الهامش، ليس إلاّ صدى للتصوّر الميكانيكي لعقل الإنسان، وقد فصّل فيه القول الفيلسوف الإنكليزي ديفيد هارتلي (1705 ـ 1757). وهارتلي يعرّف الذكرى من حيث هي ملَكةٌ عقليّة، تُستعاد بها الأحاسيس والأفكار، في الذهن، بالترتيب نفسه، والنِّسَبِ نفسها، أو بأقرب ما يكون إلى صورتها الأصليّة. وهو يقول إنّ استعادة الذكريات استعادة موضوعيّة، على نحو ما يزعم مليكن؛ ما هي إلاّ ضرب من ضروب الوهم، فالمشاهد الواقعيّة الوحيدة التي يحتفظ بها أيّ منّا، في ذاكرته؛ لا تعدو أكثر من أحاسيس وأفكار.
ويقول الكاتب الفرنسي باتريك موديانو (نوبل 2014) إنّ الكتابة عنده هي فنّ مقاومة «ليلة النسيان الباردة»، ويتمثّل بعبارة روني شار في أنّ «الحياة هي الإصرار على إكمال ذكرى ما». والذاكرة عنده منطقة داخليّة مضطربة مُشظّاة، لا نطمئنّ إليها تماما؛ ونحن مدعوّون دائما إلى مراجعتها، ومعاودة النظر فيها.
أمّا «ليلة النسيان الباردة» فهي قصيدة لجاك بريفر، غنّاها إيف مونتان؛ وكلماتها بترجمتي :
«كم أتمنّى أن تتذكّري/ الأيّام الحلوة تلك التي كنّا فيها صديقيْن/ كانت الحياة في ذلك الزمن، أجمل/ الأوراق الميّتة تتجمّعُ على المجرفة/ ها أنتِ ترين، أنا لم أنسَ/ الأوراق الميّتة تتجّمع على المجرفة/ الذكريات والحسرات أيضا/ وريح الشمال تحملها/ في ليلة النسيان الباردة/ أنت ترين، أنا لم أنسَ/ الأغنية التي كنتِ تُغنّينها لي/ هي أغنية تشبهنا/ أنتِ كنت تحبّينني، وأنا كنت أحبّك/ نحيا نحنُ الاثنَيْن معا/ أنت التي تحبّينني وأنا الذي أحبّك/ لكنّ الحياة تفرّق بن المُحبّين/ بتؤدة وهدوء/ والبحر يمحو خطى المحبّيْن الشتيتيْن، على الرمل/ الأوراق الميّتة تتجّمع على المجرفة/ الذكريات والحسرات أيضا/ لكنّ حبّي الهادئ الوفيّ/ يبتسم دائما، ويشكر الحياة/ كم كنت أحبّك، وكم كنت جميلة/ كيف تريدين أن أنساك/ كانت الحياة في ذلك الزمن، أجمل/ وكنت لي ألطف حبيبة/ لكن ليس لي[الآن] سوى حسراتي هذه/ أمّا الأغنية التي كنتِ تُغنّينها لي/ فأنا لا أزال دائما.. دائما.. أصغي لها».
أمّا في تاريخ العرب قبل الإسلام، فإنّ وقفة امرئ القيس « قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» وقفة لمقاومة النسيان. والقصيدة العربيّة الأقدم والأعظم، نشأت داخل أنماط حافزة للتّذكّر، أو أنّ الشّاعر كان يضع في اعتباره أن ينشئ شعرا يمكن تذكّره وحفظه؛ وتعزّز ذلك القافية من حيث هي لازمة إيقاعيّة أو فاصلة إيقاعيّة بين البيت والبيت الذي يليه، فهي أداة في تثبيت الصّوت أو إيقافه، أو هي جرس ضدّ النسيان لا ينبّه المستمع حسب، وإنّما يساعده أيضا على التّذكّر، أو هي تصطنع ذاكرة للذاكرة نفسها أي ذاكرة الصّوت الذي لا يكاد يشرد من سمع المتقبّل مع بداية كلّ بيت حتّى يطرق أذنه ثانية، وهكذا دواليك.
فإذا انتقلنا إلى ثقافة الإسلام، استوقفتنا نصوص مثيرة تحتاج إلى بسطة في القول، ومنها موضوع النسيان في النصّ القرآني؛ وقد عالجه القدماء بأريحيّة كبيرة. ومثاله ما نقله السيوطي في «الدرّ المنثور» من مصحف أبيّ بن كعب‏:‏ «اللهم إنّا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير، ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك» أو «اللهم إيّاك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفِد، نخشى عذابك، ونرجو رحمتك، إنّ عذابك بالكفار ملحق‏». ومثاله أيضا قول أبي موسى الأشعري: «كنّا نقرأ سورة كنّا نسمّيها بإحدى المسبّحات، وأنسيتها، غير أنّي قد حفظت منها: يا أيّها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون، فتكتبَ شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة». والنصف الأوّل هو الآية الثانية من سورة الصف «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ». ومثاله أيضا ما جاء في «الإتقان» للسيوطي؛ من أنّ مسلمة بن مخلد الأنصاري كان يتلو آيتين لا وجود لهما في مصحف عثمان، وهما: «إنّ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، ألا ابشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم، أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من كثرة أعين جزاء بما كانوا يعملون». والغريب أنّ هذا لم يثر عند القدماء من المسلمين إشكالا يذكر؛ فقد كانوا على دراية بأنّ أكثر من آية «أُسقطت في ما أٌسقط من القرآن» بعبارة عبد الرحمن بن عوف عندما سأله عمر بن الخطاب إن كان يحفظ الآية: «أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة». والنسيان في القرآن، من فعل الذات الإلهيّة كلّما كان رفعا ونسخا، مثلما هو من فعل الشيطان. ومثاله: «مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا». (البقرة 106). «وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ ربّه…» (يوسف). غير أنّ ما يعنينا أنّ القرآن نفسه يصرّح بأنّ النبيّ قد نَسي أو أُنسيَ بعض ما أوحي إليه، «سَنُقْرِئُكَ فلا تَنْسَى، إلا مَا شَاءَ اللَّهُ؛ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى». ويرد النسيان عندهم بمعنى الترك والإهمال والتخلية. وذكر الطبري أنّ معنى الاستثناء في هذا الموضع على النسيان، ومعنى الكلام: فلا تنسى إلاّ ما شاء الله أن تنساه، ولا تذكره. وهم يعنون بذلك ما نُسخ من القرآن، فرُفع حكمه وتلاوته.
وفي مدوّنة الحديث أمثلة على هذا النسيان، فقد رُوي عَنْ عَائِشَة أنّ النبي سمع رَجُلا يَقْرَأ فِى سُورَة بِاللَّيْلِ فَقَال: «يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا». واحتجّوا لهذا النسيان بحديث النبي في السَّهْو «إِنَّمَا أَنَا بشْر مِثْلكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ». وَذَلِك في تقدير الذين أجازوا النسيان على النبي ـ قَائِم بِالطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّة ـ ولكن راعهم أن يتعلّق النسيان بالقرآن، فقالوا إنّه لا يستمرّ على نسيانه، فيتذكّر بنفسه أو بغيره.
إنّ من مفارقات الذاكرة أنّنا في حال النسيان أو الغفلة والذهول والسهو، لا ننسى كلّ شيء. وممّا يؤكّد ذلك أنّنا نشحذ ذاكرتنا حتى نستحضر حدثا كنّا غفلنا عنه أو «نسيناه»، ذلك أنّ أثره لا يُمحى تماما؛ وإلاّ لما كنّا وعينا نسيانه.
إنّ النسيان في علاقة دائمة بالذاكرة، بل هو قد لا يكون سوى «ذاكرة مخذولة» أو فقدان ذاكرة أو غيابها أو ثقوبها. لنقل إنّه «ذاكرة مقلوبة سلبيّا» أو هو من أشكال حضور الغائب، أو من استخفاء الأثر.

٭ شاعر وأكاديمي تونسي

على هامش «نسيان ما لا ينسى»

منصف الوهايبي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    كلّ عام وأنت بخير: ترددت كثيراً للردّ والتعليق لكن وجدت للضرورة أحكاماً كما قالوا…ياسيدي ما يتعلّق بالنبيّ الكريم ليس هوالنسيان المُبعد عن الأحكام المنزلة بل هوالنسيان لما يعترينا كبشرفي حياتنا…كيف ينسى رسول الله وهوالذي يستمد مدده من الذي قال : { في كتاب لا يضلّ ربيّ ولا ينسى }(طه 52).وهذا الكم الجمّ من الأحاديث النبوية المدونة ؛ التي سجلت كلّ شاردة وواردة من أقوال وأفعال النبيّ الخاتم ؛ ألا تدلّ على (عدم النسيان لشيء ) ؟ إنّ أحدنا اليوم لديه سكرتيرأوسكرتيرة تذكّره بجدول أعماله والمناسبات ؛ فيؤدي ما يجده منها صالحاً من دون نسيان ؛ فكيف برسول الله الذي أرسله ربّ العالمين ؛ بمنهج قويم للناس أجمعين وحوله صحابة لا يفترون ؟ أما بعض الرّوايات من المرجفين والمستشرقين الأفاكين أنّ هناك سوراً كانت تعدل سورة البقرة ؛ فمحيت ونسيت ؛ وتنسب إلى فلان وفلانة لكسب المشروعية المزيفة الكاذبة ؛ من لغوالقول ؛ لا لمنْ له علم وعقل.ويشرفني البوح ؛ لقد قضيت أكثرمن عشرين سنة أتابع تاريخ النصّ القرآني بتجرد صارم ؛ كلمة كلمة بل إشارة إشارة ؛ والذي خلق السّماوات والأرض ؛ لووجدت إشارة واحدة أنّ ثمة نقصاً قد اعترى النصّ أونأمة من خلل في القصّ ؛ لأعلنتها ؛ لا أخشى في ذلك سقوط الأخشبين فوق رأسي.لأنّ القضية مرتبطة بالفكروالمصير؛ وليس مجرد طقوساً في ذكر؛ كي نخدع أنفسنا مجاناً باتباع أوهام الأساطير.إنه القائل للإتقان الكامل سبحانه وتعالى الرحمن ؛ وكفى به آمراً وعلينا طاعة الأمر: { أليس اللهُ بأحكــم الحاكميــن }(التين 8).بلــــى…؟

إشترك في قائمتنا البريدية