بغداد ـ «القدس العربي»: على الرغم من ظهور الكاتب علي كاظم داود كقاص شاب له بصمته التي تميزه عن الكثير من قصاصي جيله، غير أنه يؤكد في كل مرّة أنه من الصعب وضعه في خانة مغلقة، فمع القصة كتب الشعر ونشر الكثير منه، ومن جهة أخرى برز جهده النقدي للعيان، خصوصاً بعد حصوله على جائزة الشارقة في النقد العام الماضي عن كتابه «شعرية الحدث السردي» وهو دراسة في أعمال الروائية العراقية أنعام كجه جي.
داود لا يكل من البحث والتنقيب في أساليب النقد المختلفة، فيتابع الشعر والقصة والرواية، فضلاً عن نقده للنقد العراقي في أكثر من محفل، خصوصاً في المهرجانات العراقية التي تعاني من الاستهلاك ودعوة نقاد لا علاقة لهم بالكتابة، غير أن تعليقاته على تلك الجلسات جعلت منه نداً واضح المعالم دفاعاً عن الكتابة الجادة والتقنيات المنهجية.
■ كيف تقرأ الثقافة العراقية بعد التحولات التي طرأت عليها؟ وهل هناك ما يسمى فعلاً ثقافة على الرغم من الشتات الذي نعيش فيها؟
□ بدءاً يجب علينا الاعتراف أن إيجاد تعريف محدد ومتفق عليه للثقافة هو أمر بالغ التعقيد، كما يدرك المختصون في هذا المجال، وأن الركون إلى فهم واحد ونهائي لها غير ممكن عملياً، ولذلك فإنها أبعد مما يشير إليه الانطباع الأولي الذي يثيره هذا السؤال. لكن إذا أردنا الانطلاق من محددات السؤال، التي تُعرّف بالثقافة تبعاً لارتباطها بالنتاج المعرفي والأدبي والفني والإعلامي للمجتمع العراقي أو لنخبه الفاعلة، ربما يمكننا القول بعدم وجود ثقافة عراقية واحدة، خالصة ونقية ومتماسكة، إذ يمكن رصد وتأشير عدة ثقافات عراقية، تسير كلها بشكلٍ متوازٍ، أو متقاطع أحياناً، في المشهد الثقافي العراقي الراهن، كلٌّ منها ينبع من مرجعيات سياسية ودينية وقومية وأيديولوجية مختلفة، أي أن كلاً منها يمثل هويته الفرعية، ويقدمها، في أحيان كثيرة، على الهوية الوطنية العليا، وعلى الثقافة التي تمثلها، وتنطق بلسانها.
قد تكون الثقافات المتعددة والهويات الفرعية أمراً طبيعياً في كل المجتمعات والبلدان في مختلف أنحاء العالم، لكن الإشكالية، في العراق بالتحديد، تكمن في أن تلك الثقافات والهويات الثقافية لم تنسجم وتتصالح؛ لكي تتعايش في فضاء حواري سلمي، بل تعارضت واشتبكت، ما أدى إلى خلق جوٍّ مشحونٍ ومحتقن، ما يلبث أن ينفجر بين حين وآخر.
حدث التغيير في العراق عام 2003 كان بمثابة الزلزال الذي قصم ظهر الاتساق التاريخي في مسيرة الحدث العراقي، فكان التحوّل الأهم في تاريخه المعاصر، وقد أحدث تغييرات جوهرية في البنية الاجتماعية والثقافية والتركيبة السياسية، بوصفه منعطفاً أساسياً في المسار التاريخي للبلد، أعقبته هزات ارتدادية عديدة ومتواصلة، فككت المجتمع ومزّقت نسيجه وبعثرت مكوناته إلى أقصاها، حتى أظهرت معادنه الأصلية التي كانت مطمورة تحت ركام هائل من التعقيدات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وبالأخص السياسية.
■ القصة كانت وما زالت عالماً أثيراً بالنسبة لك، فأصدرت «تشتعل ولا تضيء»، ما الذي طرأ على القصة القصيرة منذ بداياتها قبل أكثر من ثمانين عاماً؟ وهل كانت هناك تحولات مهمة غيرت من مسارها؟
□ القصة القصيرة- بلا شك- شهدت تطوراً كبيراً، على أيدي كتاب كثر، من مختلف أنحاء العالم، ومنهم عرب وعراقيون، كان لهم الفضل في تجديد هذا الفن السردي المميز، المغامر والمتجدد، والوصول به إلى أن يصير عالماً سردياً شاسع المدى، لهذا فإن التجريب والتجديد في هذا الفن مهمة صعبة، لكنها مع ذلك لم تتوقف يوماً، حيث نشهد بشكل متواصل صدور نصوص ومجاميع قصصية مميزة في بنائها وموضوعاتها، تؤكد حيوية وديمومة هذا الفن الجميل والثري.
لقد دخلت القصة القصيرة، منذ وقت مبكر، حلبة الصراع الفكري والثقافي، وأخذت تدرك حقيقة مهمتها في تمثيل الواقع المحتشد بالصراعات والإشكاليات والأزمات، وبدأت بمراجعة جادة لمواقف وأحداث لها وقع وتأثير خاص على حياة الإنسان ووجوده، وذلك بحسب ما تتيحه ممكنات الشكل والفضاء القصصي. وقد شهد عصرنا الراهن، بالخصوص، تنامياً كبيراً لهذا الوعي السردي من قبل كتاب القصة القصيرة، حتى رأينا جلّهم يغادر مناطق الكتابة الشاعرية والرومانسية والذاتية، ويتجه إلى تمثيل القضايا الكبرى في حياة الإنسان والمجتمع ويناقش، سردياً، أبرز الإشكاليات الملحّة في الواقع، الأمر الذي انفتح بهذا الفن الأدبي المكثّف والشكل القصصي المحدود في حجمه وقالبه على مديات أوسع وأرحب وأكثر تأثيراً.
■ صدر أكثر من 600 رواية عراقية منذ عام 2003 حتى الآن… ألا ترى أن هذا رقم يمكن أن يؤسس لعالم روائي عراقي متفرد؟ أم أن هذا رقماً ربما يضيع وسط المنجز العربي والعالمي؟ وهل كانت هناك أعمال يمكن أن ينبني عليها مستقبل للرواية في العراق؟
□ تبرز الرواية على أنها الفن الكتابي الأقدر على استيعاب وتمثيل التحولات الكبرى بصورة عامة، وقد حاولت أيضاً، بطبيعة الحال، استيعاب التحوّل العراقي، المتمثل بحدث التغيير عام 2003، وعملت على قراءته واستعادته وتمثيله وتحليله، ومن ثمّ قراءة وتحليل الأحداث التالية له، ونقد وتفكيك المجتمع وتشخيص ما طرأ عليه إثره. ولهذا يظهر للمتتبع بوضوح أن من آثار حدث التغيير ارتفاع نسبة المُنتَج الروائي في السنوات التالية له، مقارنة بكل تحقيبات الرواية العراقية السابقة، وبالتلازم مع ذلك، أو سابقاً عليه، ازدياد عدد الروائيين بشكل ملحوظ بالنسبة إلى كل الأجيال السابقة.
من الطبيعي أن تتفاوت المستويات الفنية في المنجز الروائي الجديد، لكن الواضح، من بين كل ذلك، أن عدداً جيداً من هذه الروايات تميز ببناء فني ناجح، أنتج عوالم روائية مميزة، كما أنه حقق حضوراً لافتاً في محافل مهمة، عربية وحتى عالمية، وبذلك يمكن أن نعدّ عصرنا الحاضر العصر الذهبي للرواية العراقية، وهو ينبئ بمستقبل أفضل وأكثر غزارة لهذا الفن الأدبي في العراق، حيث ما تزال الأقلام تتسابق، وهي في تزايد مطرد، لكتابة الروايات وتجويدها.
■ على الرغم من أنك بدأت قاصاً، غير أن النقد أخذ منك الكثير، وتوّج جهدك بحصولك على جائزة النقد في الشارقة… لماذا النقد؟ وما الفلسفة التي تشتغل عليها من أجل إكمال مشروعك مستقبلاً؟
□ يبدو أن فهم الشكل القصصي، والقراءات المركزة في حدوده، وفي ما أحاط به من كتابات نقدية، مدة طويلة، إضافة إلى الأسلوب الكتابي الذي طوّعه السرد، أمور هيّأت لي التجريب في كتابة المقالات والدراسات النقدية حول المنجز السردي بشكل عام والروائي منه بالخصوص، وهو ما أدى بي أيضاً إلى نيل جائزة الشارقة للإبداع العربي في مجال النقد الأدبي عن دراسة بعنوان «شعرية الحدث السردي» طبعت بعد ذلك في كتاب صدر عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة عام 2014.
مرجعيتي الإجرائية هي النص ذاته، إذ أعتقد أن النص هو الذي يفرض أسلوب التعامل النقدي معه، وهو الذي يحدد طبيعة إجراءات النقد حياله، فهو المستهدف بالنقد، وهو الغاية من وراء هذه العملية كلها. وأرى أن من أهم خصائص الناقد الجيد امتلاكه رؤية إبداعية وذائقة حساسة ووعياً منهجياً وقدرة على الفهم ورصيداً لغوياً واصطلاحياً واسعاً، وإلماماً بالعلوم اللغوية والبلاغية، مع إدراك جيد بممكنات اللغة والاصطلاحات وحدودهما، وقابلية على توظيفها بشكل دقيق ومؤثر، يؤدي الغاية والمعنى بأقصر الطرق وأيسرها. كما أرى بأن على الناقد أن لا يركن إلى اللغة النقدية المعيارية تماماً، التي كثيراً ما توصف بأنها لغة جافّة وجامدة، بل عليه أن يمتلك لغة وصفية حيوية، تقترب من المتلقي على اختلاف مستويات وعيه وثقافته، وتغريه بالتفاعل معها، لتذوق واستكناه النصوص المنقودة، مثلما تقترب من هذه النصوص وتسبرها بذكاء علمي ووعي إبداعي، فالنقد إبداع أيضاً، ولا يصح التعامل معه على أنه نظريات رياضية تطبق بطريقة ميكانيكية فقط.
■ كيف تنظر للنقدية العراقية؟ وهل هناك أسماء يمكن أن يعوّل عليها في المستقبل مقابل أسماء بدأت بطرح مصطلحات لا أساس لها..؟
□ يكاد ينقسم الفعل النقدي العراقي إلى مسارين واضحين، يتداخلان أحياناً، وينفصلان أحياناً أخرى كثيرة، وهما: النقد الذي يمارسه النقاد الأدباء، والنقد الذي يمارسه الأكاديميون. وفي كلٍ من المسارين إيجابيات مهمة وسلبيات لا تخفى على المتابعين والمتخصصين.
لم يعد النقد الأكاديمي كما كان في السابق، فقد أصبح في الغالب وسيلة لتحصيل الشهادة العليا والدرجة الأكاديمية، من دون أن يتوخى القيمة المعرفية والبحث الجاد عن الحقائق العلمية. الاتجاه الأكاديمي العراقي، وحتى العربي، لم يعد مؤهلاً لصنع ناقد، وأغلب الذين يبرزون ويبرعون فيه إنما يأتون إليه من الحقل الإبداعي، أي أنهم كتاب أو نقاد بالأساس، قبل أن يصبحوا أكاديميين. وعندما نطلع على بعض الدراسات الأكاديمية التي منح على أساسها شهادات عليا، نجد قسماً كبيراً منها يعتمد على نقل واقتباس وحتى سرقة الآراء من الآخرين، وتتسم بالتقليدية ويقل فيها البحث الجاد والابتكار والانفتاح، حتى بتنا لا نجد إلا عدداً محدوداً من الأكاديميين ينخرطون في إنتاج الخطاب النقدي العراقي ويؤثرون في صناعته.
في مقابل ذلك نجد بعض الأسماء النقدية في الوسط الأدبي قد خَدَمَهَا الإعلام، من دون أن تمتلك رؤية نقدية حقيقية أو وعياً معرفياً عميقاً أو لغة تواصلية مع المتلقي، تتقن التعبير عن مقاصدها النقدية. هذه الظاهرة أنتجت نصوصاً نقدية لا تفسر النصوص الأدبية، بل تحتاج إلى من يفسرها للقارئ، كما ولّدت اصطلاحات عقيمة وتراكيب غير مسبوقة، لا تؤدي دلالة واضحة في سياقها. نلاحظ كذلك، أحياناً، أن النقد لا يسير وفق أسس موضوعية، ولا يصدر أحكامه تبعاً لما تتضمنه النصوص من قيمة فنية حقيقية، بل وفقاً لعلاقات شخصية أو مؤثرات أخرى خارج أدبية، وهذا مما يؤسف له حقاً.
فالحياد والموضوعية في الحكم الفني وإبداء الرأي النقدي من السمات المهمة التي يجب أن يتحلى بها الناقد، لكونه بمثابة القاضي والحكم الفصل في هذا المجال، فإذا ركن إلى المجاملات والعلاقات والمصالح الشخصية فإنه سينتج نقداً شائِهاً ومُشوِّهاً، يعلي من نصوص لا قيمة لها، ومن ثمّ يصنع أسماءً لا تمتلك تجربة حقيقية. وهذه ليست قضية أخلاقية فقط، بل لها ارتباط بالجوانب المعيارية، إذ ربما ستؤدي إلى فساد وانحراف في منظومة الأدب بشكل عام، وهذا ما لا يريده أحد.
■ كيف تقرأ الخطاب النقدي العراقي؟ وهل هناك توجه ما يشتغل عليها هذا النقد وسط بروز أسماء كثيرة، مثلما برزت أسماء شعرية لم تقدم شيئاً حتى الآن؟
□ من الملاحظات المأخوذة على النقد العربي والعراقي أنه يقدّم في حساباته القيود المرسومة منهجياً والمحددات النظرية المسبقة، في الغالب، على الرؤى والبحوث التجديدية والنظر المتحرر، وهو بذلك يحكم على عجلة تطوره بالسير البطيء، وبالتوقف أحياناً. وأرى بأن هذا الجهد النقدي، رغم المنجزات المهمة التي شهدها، لم يوفق لحد الآن في أن يُؤسس لمدرسة نقدية خاصة به، تمتلك طابعها وملامحها وخصائصها التي تميزها في مشهد النقد العالمي، حيث ما يزال النقد العربي يستند على الجهود الفردية والمشاريع الذاتية للنقاد العرب، ويفتقر إلى العمل المؤسساتي الذي يتبنى تأطيره وتحديد معالمه من أجل التأسيس لمدرسة خاصة به.
صفاء ذياب