عمان: المدينة التي تخشى «ظلها»

جارحة وعميقة الى حد كبير تلك المداخلة الاعتراضية العبثية التي عبر عنها الممثل الاردني عمر خليفة وهو يتحدث عن مدينة عمان الخالية تماما من البصريات والتي لا تسجل ولا توثق بالكاميرا او بالفن ما يجري فيها ولا تتحدث عن مشكلاتها ولا عن صورتها الحقيقية.
حتى الاشياء الجميلة او الابداعية في عمان لا تلتقطها البصريات حيث لا توجد رعاية من اي نوع تجعل ابن عمان بصرف النظر عن خلفيته الاجتماعية او العشائرية او حتى السياسية يرى نفسه او مدينته في صورة من اي نوع تعكس ولو جزءا من الحقيقة.
نعم عمان مدينة كوزمو بوليتيكية الآن فعدد الذين يعيشون ويمرون بها يقترب من ستة ملايين شخص وفيها نحو 70 جنسية.
هؤلاء لا مكان لهم من اي نوع في عالم البصريات واي عملية بحث حقيقية بعيدا عن معاناة الدراما والفن والنجوم في التفاصيل تظهر بأن عمان قد تكون العاصمة الوحيدة في الدنيا التي تخشى ظلها وتخاف، خلافا للمدن التي خلقها الله وعاش بها البشر من التحدث عن نفسها سواء ما يشمل الايجابي فيها او السلبي.
عمان تخشى ظلها وصورتها، تلك فعلا صورة معبرة عن مدينتي التي اعشقها والتي يرى اهلها انها اجمل بقاع الكون لكن الاعلام والانتاج الفني لا يتحدث عن هذه المدينة، ونخبها المثقفة منقسمة الى مجموعتين الأولى تبحث عن لقمة الخبز والعيش الكريم وسط ضيق الحال وقلة الحيلة.
والثانية تستوطن باسم الاطراف والمحافظات والتمثيل الاجتماعي والعشائري اجمل المدن لتحقيق امتيازات ومصالح شخصية.
ثقافة عدم تحدث الاردنيين عن بعضهم مستقرة ولا حتى عن انفسهم وقد سمعت شخصيا من رئيسين للوزراء على الاقل فكرة غريبة تقول بان الاردني الوطني والمنتمي هو ذلك الذي يخفي مشكلاته ولا يتحدث عنها وبان المواطن الصالح هو الذي لا ينشر غسيل مدينته او بلده.
لا اعرف وصفة يمكن ان تشرح خلفية مثل هذه القواعد المستقرة في وجدان السياسيين في عمان العاصمة الا اذا كان المقصود تداول السلطة والنفوذ والمال من قبل عدد ضيق من الاشخاص في المدينة المفعمة بالايقاعات اليوم ليس فقط على حساب الناس والمجتمع والشعب.
ولكن ايضا على حساب الدولة والمؤسسات وللاستمرار في السحب من رصيد النظام الذي لا يواجه سؤالا مطروحا من أي نوع وفي اي وقت تحت عنوان الشرعية.
عمان متوجسة وقلقة ليس فقط لأنها تعاني من الازدحام وارتفاع الاسعار ولأن طبقتها المتوسطة تذوب وتتلاشى أو لأن الغرباء يتكاثرون فيها.. هي كذلك لأنها بلا صورة عمليا فإعلامها لا يتحدث عنها ولم توثق لها فعلا ولا لحكاياتها وقصصها وما يحصل في حواريها وقراها وضواحيها اي برامج تلفزيونية توثيقية او اعمال مسرحية او حتى مسلسلات.
عمان مدينة أجبن من الفرد فيها وتبدو غير مؤمنة بالتعبير البصري والتوثيقي والتسجيلي خلافا لقيادتها.
اهل هذه المدينة لا يمــثلون انفسهم في مجلسها البلدي وعمدتها ليس منتخبا وتلفزيون الحكومة الرسمي لا يرى اهـــــل عمان فيه صورتهم على اي نحو.. عندما يلمح اي ناقد او صاحب رأي او فكرة لمسألة من هذا النوع يمطره من يزعمون الوطنية ويحترفون الخوف والتحذير بأطنان من معلبات الاتهامات الموسمية.
عمان مدينة تتحدث عن نفسها يوميا ولأهلها لهجة منحوتة وفيها ايقاع شامي وآخر عراقي وثالث شركسي وشيشاني وفيها ايضا ذلك الايقاع العذب النقي الذي يحيط ببعض أطرافها وهي تعبر عن مزيج ابداعي من الثقافات واللكنات واللهجات يؤهلها لأن تكون مدينة كونية بامتياز.
لكن كل ذلك لا يتم تصويره ولا توثيقه ولا تلتقطه الكامـــيرات ولا يتحول الى افلام او مسلسلات او برامج.
السلطة المرعوبة فقط هي التي تمنع اهل مدينة بهذا الاتساع والابداع والتنوع من تسجيل وتوثيق أنفسهم والاعلام المركوب فقط هو الذي لا يؤمن الا بفارس قصير الارجل يمتطي جحشا وينبذ الأحصنة.. هذا ما يجري عندما يتعلق الأمر بعمان التي يخذلها أهلها ولا يستطيع اولادها من النجوم والرموز التحدث عنها لأن الاسطوانة المشروخة متجذرة في اعماق المؤسسات والنخب الاردنية وهي التي تؤمن بان الحديث عن الوقائع والحقائق يمكن أن ينتهي بأزمة او مشكلة او اضطراب اهلي.
تلك وصفة امنية قديمة بامتياز اخترعها مدير سابق للمخابرات ورحل الرجل وبقيت وصفته بلا تحديث او عصرنة او مراجعة تحكم مسار كل النقاشات تحت عنوان الوضع العام في البلاد لا يحتمل الحديث عن الحقيقة.. طبعا عمان هنا كانت اول المدن المتأثرة حيث تتغير الآن بصمت وبطء وبطريقة لا تعبر عن نفسها لأن الاردني يخجل من الحديث عن مشكلاته ويخشى التغيير ويرتاب بكلفة الاصلاح او لأن الانسان بطبيعته لا يحب صورته في المرآة.
أجزم شخصيا بأن الجرعة المرة من كلام الفنان عمر خليفة تسلط الضوء على واحدة من اهم القضايا المسكوت عنها في الاردن.. عمان تخشى ظلها بقرار سياسي وبالتالي تغادرها تلك البصريات بقرار أمني لأن الجميع يتوجس خيفة من قول الاشياء كما هي وهو ما لا تفعله بالعادة المدن التي تثق بنفسها.
٭ مدير مكتب «القدس العربي» في عمان

عمان: المدينة التي تخشى «ظلها»

بسام البدارين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حسام محمد:

    قد تكون عمان عدة مدن تحت اسم واحد يغيب عنها التجانس والتكاتف البشري حتى في ابسط الامور.

  2. يقول هاني ابراهيم:

    التجانس والالفة العاطفية تجدها في المساجد فقط …انا اصلي في مسجد في عمان ويصلي في نفس المسجد اليمني والعراقي والسوري وابن غزة حتى والليبي ….والكل توحد تحت بوتقة واحدة هي بوتقة الاسلام …وعند اي مناسبة كانت في حيينا فرحا او ترحا تجد الجميع يذهب مشاركا بغض النظر عن جنسيته ..صحيح ان الكل يعاني من الفقر والبطالة وارتفاع الاسعار لكن لو اتيحت للمساجد والعلماء والشرفاء ان تقود الامة لاصبحنا افضل مما نحن فيه من تشرذم وفرقة نمشي في مؤخرة الامم ونلهث وراء المستعمر ونرهن مقدراتنا لعدونا وعندنا عوامل الوحدة توحدنا الدين واللغة ….والله المستعان

  3. يقول سامح //الأردن:

    *اكبر خطأ ارتكبته الحكومات السابقة هو
    التركيز على(عمان) فقط وإهمال باقي
    مدن الأردن..؟؟؟
    *النتيجة ما نراه الآن; مدينة مكتظة
    مزدحمة وخليط (غير متجانس) من
    البشر ..!!!
    * عمان جميلة ولكن ظلموها الساسة
    وحملوها فوق طاقتها..
    سلام

  4. يقول خليل ابورزق:

    اذكر في احتفالات امانة عمان بمرور مئة عام على انشاء البلدية 1909 -2009 سيرت مواكب تشرح تاريخ المدينة ومنها موكب يمثل هجرة الشراكسة و الشيشان اليها في اواخر القرن التاسع عشر ثم مكونات المدينة الاخرى و لم يات الموكب على اي ذكر للمكون الفلسطيني فيها وهو الاكبر و الابرز. شيء عجيب من قبيل تغطية الشمس بغربال. و للاسف فقد وجدت شيئا من هذا القبيل في بغداد عند زيارة المتحف العراقي ايام صدام في انهم ازالو الاثار الفارسية من المتحف الكبير. و كذلك الرسوم التي تمثل المرحلة الفارسية عن اللوحة التذكارية في ساحة الحرية. و نزعوا اسم عبدالكريم قاسم الذي انشأت اللوحة في عهده و اقاموا نافورة صغيرة تحت اللوحة كتبوا عليها انها انشأت في عهد صدام.
    هذه مأساتنا نكذب و نكذب و نعلم ان لا احد يصدقنا و نبني اوهاما على اوهام ثم نشكو من الزحام و التوهان

  5. يقول حسين/لندن:

    خاطره جميله كالعاده أستاذ بسام،،وموضوع فعلا مهم وشيق،،
    استدعى ذكريات طفوله جميله ولت ولن تعود،،عمان العروس الجميله بتجأنس أهلها أو بتناقضهم لا يهم،،
    تحتاج هذه المدينه الاهتمام ألحقيقي الذي يعكس أهميتها وتنوعها،،ولكن لا يجب أن تكون على حساب المدن الأخرى كما تفضل ألأخ سامح،
    تحياتي

إشترك في قائمتنا البريدية