■ يختصر عمل وكالات الأنباء في أذهان الكثيرين ـ منهم طلاب السنوات الدراسية الأولى في معاهد الصحافة، في تقديم روايات للأحداث معززة بتصريحات أفراد ذوي شأن وصلة، وربما قوة تأثير على مجرياتها، لكن سرعان ما نكتشف أن البيانات المفصّلة لوكالة أنباء محترمة أمثال وكالة رويترز، تتجاوز محض سردها لتطورات الأحداث لترقّيها سريعا إلى مصافّ التحليل، وغالبا ما لا تترك لنا خيارا غير خيار اتخاذ موقف، لأن طريقة رواية الحدث ضمنت نفسها موقفا لا يترك مجالا ليرتاب منه مرتاب.
باغتني – كما باغت الكثيرين ربما هذا الصباح – بيان يحمل عنوان «أمريكا تزود إسرائيل بالذخائر مع اشتداد الهجوم على غزة»، وفيه نقرأ أن مسؤولا أمريكيا صرّح بأن «الولايات المتحدة سمحت لإسرائيل، التي تشنّ هجوما على قطاع غزة بالحصول على ذخائر من مخزون محلي للأسلحة الأمريكية في الأسبوع الماضي، لإعادة تزويدها بالقنابل وقذائف المورتر». ويضيف البيان أن الذخيرة «كانت قد وضعت داخل إسرائيل في إطار برنامج يديره الجيش الأمريكي ويطلق عليه الحلفاء مخزون احتياطات الحرب، وهو برنامج يتم بموجبه تخزين الذخائر محلّيا لاستخدام الولايات المتحدة، ويمكن لإسرائيل استخدامها في المواقف الطارئة». غير أنّ، يواصل البيان، «إسرائيل لم تتذرع بحالة طارئة عندما قدّمت أحدث طلب لها منذ عشرة أيام».
كأنّ وصول الذخائر إذن مرتبط بسير للأمور كلها طبيعية واعتيادية لا مجال للتعقيب عليها، لا بل ربطها بأي «أحداث راهنة من شأنها أن تبرر هذا الطلب». فكما يقول مخرجو بعض الأفلام في بداية العرض: المرجو عدم المطابقة بين أحداث القصة وأحداث الواقع. فالولايات المتحدة الأمريكية ذات الفهم الدقيق للمصلحة المشتركة قدمت، بأريحية وسعة صدر، ما نتعلم أنه هدية تتقاطع مع مناسبة يرجى من الجمهور الكريم التعامل معها كمحض مناسبة لا ربطها بالوضع الراهن بحال من الأحوال. والمناسبة يختصرها هنا هذا التصريح من مسؤول عسكري أمريكي وتستدعي منا أقواله تفكيكا صغيرا حتى نصدّق عينينا وأسماعنا:»لم يطلبوه من هناك وإنما أعطيناه لهم حتى نجدد مخزوناتنا».
«لم يطلبوه» هذه، فاعلها طبعا الإسرائيليون، ونستغرب كيف يقول «لم يطلبوه، «بينما علمتنا عشرة سطور قبله أن إسرائيل قدّمت أحدث طلب لها منذ عشرة أيام، «أعطيناها لهم» فاعله أمريكا بالتأكيد ومفعوله إسرائيل طبعا، أما المقطع التالي، وهو «حتى نجدد مخزوناتنا» ففاعله…أمريكا ايضا!
فالأمر إذن ينحصر في أمر بسيط وهو نفاد ذخائر إسرائيلية، تُستجدى معه ذخائر أمريكية من مخزون أمريكي هو نفسه في الطريق إلى النفاد، ولكنه أقل نفادا ومن مصلحة أصحابه إنفاده في أسرع وقت.. إذن، لم لا في هذا التوقيت الذي، نعيد ونكرر، لا يشكل أي حالة طارئة إذا ما صدّقنا الرواية الرسمية.
تجديدان متقاطعان من «باب الصدفة» إذن، لهدف «غير معلن» من جهة، ولمخزونات قديمة من جهة أخرى تحوّلها صاحبتها، بغية «تعويضها»، إلى «مستفيد محتاج» يجتاز «مرحلة ضيق».
دونكم إذن نموذج بليغ آخر من عملية الاستهزاء من الطراز الرفيع التي تظهره لنا مراوحة أمريكية مستمرة بين انتقادها الظاهري لأداء حليفها التقليدي، وباطن اتفاقاتها معه، التي لم ولن تتأثر ديمومة سريانها بأي مؤثر كما يظهر.
٭باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
بيار لوي ريمون