القتل على الهوية هو أحد تنويعات الإرهاب لدى النظام الانقلابي في مصر. تصفية ما يناهز الثلاثين مصريا مسيحيا في الحافلة التي كانت تقلهم إلى دير نوال البركة في المنيا، يأتي في سياق يوميات إرهاب النظام الانقلابي الذي أدرج مادة العنف و الإرهاب في مشروعه الاستثماري الرامي إلى البقاء في الحكم واستغلاله كأفضل وسيلة لبناء الثروة والجاه. فهذا الحادث الدموي الأخير، يأتي بعد التفجير الذي ضرب الشهر الماضي نقطة تفتيش أمنية شمال سيناء، وستلحق تفجيرات أخرى بعده… يعزى بالأساس إلى السلطة الانقلابية في مصر، ولا يمكن الوقوف على الفاعل الأصلي إلا بإعادته إلى الطغمة العسكرية التي صادرت الدولة المصرية ومؤسساتها، واغتالت النواة الحيوية للحياة السياسية في مصر وأحكمت سطوتها عليها. فالانقلاب الذي أقدم عليه الجيش عام 2013، استولى على مجال الدولة وعلى مجال المعارضة، وعليه، فإن أي واقعة أو حدث يقع لاحقا، فالنظام الانقلابي، يتحمل أوزاره وتداعياته لأنه من أول يوم كان النظام الانقلابي يتوقع أعمال العنف والإرهاب، وقد سخّر لمواجهة مصيره ترسانة من التعزيزات الأمنية والعسكرية تقيه من عوائد الزمن الرهيب.
إن الجيش الذي استحوذ على مؤسسات الدولة واغتال الحياة السياسية يكون قد أدرج مصير المصريين في مسار العنف والإرهاب والدم والنار وكافة أشكال التدمير والخراب، وجعل برنامجه التصدي المطلق للجماعات التي تَرُد على عنف الانقلاب، بقوة مضادة على القوة الانقلابية. أما أن يَعْمد العسكر إلى الانقلاب بعد إرساء حكم الدولة الوطنية، معنى ذلك أن الجيش قد رشَّح الوضع برمته إلى حالة من العدمية وغياب المعنى، لأنه أراد أن يفرض ما لا يمكن أن يقبل في الزمن الذي يوصف بما بعد الاستعمار والحكم المطلق.
في ضوء معرفة حقيقة الانقلاب على هذا النحو، يمكن أن نفهم أن اغتيال من كان في الحافلة، وقبله التفجير الذي طال الكنيسة الأرثوذكسية، وقبله مسجد السلام في القاهرة يندرج ضمن المشاهد السياسية للطغمة العسكرية والأمنية التي انقلبت على أول تجربة ديمقراطية في حياة مصر والمصريين. وبتعبير آخر يفيد نفس المعنى، أن ترتيب برامج من أشكال العنف والإرهاب واستدراج الجماعات والأفراد اليائسة المحبطة من حكم العسكر إلى ارتكاب المجازر لإزهاق الأرواح يساعد، جهاز السلطة على تجهيز مراسيم التأبين ومظاهر التعازي وكل البروتوكول الذي يستعرض فيه الإنقلابيون «قوة» الدولة وعظمتها، يوفرون لهم فرصة لخروج رئيس العصابة الانقلابية بخطاب يذاع على الجميع يؤَوَّل فيه الحدث وفق ما يروق له ويقحم دائما اعتباراته السياسية، يلَمّح فيها إلى سبب إخفاقاته وأزماته المتوالية التي نغّصت على حياة المصريين، الذين صاروا لا ينتظرون أي انفراج. إن أفضل طريقة لتمرير الخطاب التبريري، أن يجري في مراسيم التي تشد الانتباه والاحتفالات الاستعراضية ذات الوقع على نفس الجماهير، خاصة عندما تقوم بتغطيتها دكاكين الإعلام الفاسد، الطرف المستثمر من يوميات العنف والإرهاب الواردة في برنامج ومشاريع السلطة الانقلابية.
وهكذا، فإن التفجير الذي ضرب من قبل المركز الأمني في سيناء هو عمل إرهابي من متواليات السلطة الانقلابية، لأن فعل الانقلاب إجراء إرهابي مطلق، يجب أن يفرز تداعياته لاحقا، وكل ما يحدث من عنف وثورة وعصيان هو من جنس الإرهاب المطلق الذي احتكرته السلطة الانقلابية عندما أقدمت على اغتيال أول تجربة ديمقراطية في حياة مصر والمصريين، تتأسس عليها الدولة المصرية ذات مؤسسات اعتبارية غير قابلة للتمليك الشخصي أو الأمني والعسكري ولا الحزبي. إن التفجيرات المتوالية، يعني من جملة ما يعني أن الحياة السياسية تعبر عن نفسها بالعبث والعدمية والطيش الذي لا يرتب أي إمكانية للحل والخروج من المأزق، لأن الفاعل والراد على الفعل هو ذاته أصل العملية يُبْطنها منذ بداية الانقلاب، ويفصح عنها في يوميات الدم، القهر، الغلاء، النفاق السياسي، الخطاب المخاتل.
عندما تُصادر الدولة من قبل الجيش، في سياق زمني لم يعد لحكم العسكر أي مبرر، معناه في التعبير الأخير السعي المتواصل إلى خلخلة الوضع العام وزرع يوميات الإنسان المصري بالعنف والإرهاب كتبرير لتأبيد حكم العسكر، ينعدم أي أفق للانفراج، ولا إمكانية العودة إلى حياة مستقرة، لأن حكم طغمة عسكرية عنوانه الكبير هو غياب الأمن والحياة العادية. واليوم، وبعد مرور ثلاث سنوات على الانقلاب الدامي، تكون قد مرت أعنف سنوات وأدماها في حياة مصر والمصريين، تؤكد أن مسار الانقلاب ومصيره هو دائما مزيد من التدمير والتفجير والاعتقال وما يمكن أن يضيف أطرافاً أخرى تدخل في العملية الاستثمارية الكبيرة التي تنجم عن ذلك، مثل ما هو حال دكاكين إعلام الفتنة التي تتفنن في استغلال الحدث لملء برامجها وتمرير الفواصل الإشهارية في أكثر لحظات إقبالا على مشاهدة الشاشة. وعليه، فإن الإرهاب، على النحو الذي يستثمر فيه النظام الانقلابي، لا يمكن هَزْمه، لأنه من طبيعة نظامية، مؤسساتية، يرعاه ويشرف عليه الجيش، القوة الرئيسية في البلد. فالسلطة التي انقلبت على الدولة، أدْغَمَت الفعل ورد الفعل في وحدة كامِنة لا يمكن فصمهما، لأنهما ينتميان إلى نواة صلبة يستمد منها النظام الانقلابي كل حيويته التي تساعده على ارتكاب القتل والاغتيال والإعدام والاعتقال، والسجن، والترويع، الفساد المالي والإعلامي والتجاري… تفضي به لا محالة إلى فقدان البصر والبصيرة إلى أن يلقى مصيره المحتوم أي الإطاحة به.
٭ كاتب وباحث من الجزائر
نور الدين ثنيو
“وعليه، فإن الإرهاب، على النحو الذي يستثمر فيه النظام الانقلابي، لا يمكن هَزْمه، لأنه من طبيعة نظامية، مؤسساتية، يرعاه ويشرف عليه الجيش، القوة الرئيسية في البلد. فالسلطة التي انقلبت على الدولة، أدْغَمَت الفعل ورد الفعل في وحدة كامِنة لا يمكن فصمهما، لأنهما ينتميان إلى نواة صلبة يستمد منها النظام الانقلابي كل حيويته التي تساعده على ارتكاب القتل والاغتيال والإعدام والاعتقال، والسجن، والترويع، الفساد المالي والإعلامي والتجاري… تفضي به لا محالة إلى فقدان البصر والبصيرة إلى أن يلقى مصيره المحتوم أي الإطاحة به.”
لا فض فوك يا أستاذ نور الدين نورك الله . مقال رائع أسلوبا وعميق فكرا وتحليلا للحالة الانقلابية المأساوية التي تعرفها مصر . من أحسن ما كتب عن “برنامج” الانقلاب الإرهابي في مصر. شكرا.