لم تترك حوادث المواجهات التي اندلعت بين فرق من الشرطة الإسرائيلية، ومجموعات من اليهود الأثيوبيين (الفلاشا) السود أو السمر، لأي مكابر نفي عدم وجود تمييز وتفرقة عنصرية، في ما يسمى بالمجتمع الإسرائيلي. فرئيس ما يسمى الدولة ورئيس الوزراء وغيرهما، اعترفا بذلك بكل وضوح، وفي تصريحات معلنة وموثقة على خلفية الحوادث، التي اندلعت بعد اعتداء الشرطة على جندي إسرائيلي من أصول أثيوبية.
وبما أن الأمر كذلك، وأنه توجد فوارق في التعامل والتمييز ودرجات متنوعة منه، وحمل هذا التمييز طابعه العنيف والقامع واستعمال مفرط للقوة في مناسبات عديدة، وانوجدت مع الأيام تراتبية وتصنيفات، في نوع ودرجة وقوة وشراسة الشرطة في تعاملاتها مع مطالب وتوجهات واحتياجات واحتجاجات، حملت ما يموج في هذا المجتمع من الصفات والتصنيفات، كأن تكون ذات طابع قومي اجتماعي معيشي حياتي لدى الفلسطينيين، على سبيل المثال ودائما، وهؤلاء يتم التعامل معهم بكل قسوة مفرطة، بدءا من استعمال الهراوات وقنابل الغاز ورذاذ الفلفل والمياه المبتذلة، وصولا إلى استعمال الرصاص المطاطي وأخيرا المعدني، أو استعمال كل هذا؛ ليصل القمع والبطش إلى الاعتقال بعنف، أو القتل.
هذه درجة أولى في تصنيفات تعامل الشرطة مع أصحاب المطالب والحاجات والاحتجاجات، علما أن احتجاجات وتظاهرات الفلسطينيين تتم بسبب مصادرة أراضيهم أو بيوتهم، أو اقتلاع أشجارهم ومصادرة ينابيعهم ومنعهم من العمل والتجول، أو احتجاجا على عدم توفير خدمات المدارس والمستشفيات والماء والكهرباء، وغير ذلك، أو بسبب عدم منحهم تراخيص لزيادة في مساحات سكن يأويهم.
أما النوع الثاني من تراتبية تعامل الشرطة الفج والعنيف مع أصحاب المطالب، فإنه يقل قليلا عن وحشية الممارسات السابقة تجاه الفلسطينيين، وتمثل هذا في المواجهات التي قامت منذ أشهر قليلة بين أفراد من الشرطة ومجموعات من المهاجرين السود، خصوصا من اريتريا والسودان وأثيوبيا وغيرها. صحيح أن الشرطة في تعاملها مع المتظاهرين، كانت في شراستها وقمعها أقل من سابقتها، لكن لم يسجل أي حادث قتل، رغم تسجيل عشرات الاعتقالات والجرحى لدى الطرفين، إلا أن الأمر لم يصل إلى درجة القتل، وتم احتواء التظاهرات الاحتجاجية ضد ممارسات الشرطة وشرائح من المجتمع التي تعاملت وتتعامل بقسوة وتمييز، وعدم أعطاء حقوق مساوية للجهود التي بذلها ويبذلها أولئك المهاجرون.
أما التراتبية الثالثة في العنصرية والتمييز، فهي تتعلق بالمهاجرين اليهود السود، وما نجم وينجم عن اصطدامهم بمكونات في المجتمع الإسرائيلي، كأن لا يسمح لهم بامتلاك بيوت في حي من أحدى المستعمرات أو المدن، أو يتم التعامل مع أطفالهم بتمييز في المدارس، أو يتم منحهم أجورا أقل في مجالات العمل، وعدم منحهم فرصا متكافئة في هذه المجالات. لذا فإنهم يحتجون ويتظاهرون بين فترة وأخرى، وقد تم تسجيل أن مداخيلهم تقل بنحو 40٪ أدنى من المعدل العام، وأن مستوى خط الفقر لديهم يصل نحو 38.5٪، في حين أن المعدل العام يصل إلى نحو 14.3 من بين السكان اليهود جميعهم. وقد تعاملت الشرطة مع احتجاجاتهم وتظاهراتهم التي خلفت عشرات المصابين والمعتقلين، بأقل ما يمكن من العنف المفرط والشراسة المعهودة، كونهم في النهاية يهودا، وإن كانوا من لون أسود أو أسمر..
هكذا تتمايز شراسة القمع بين مكون وآخر، والعنصرية والتمييز لا تحمل في ممارساتها طابعا واحدا، فهي فاقعة وشرسة وفجة، وأحيانا قاتلة تجاه الفلسطينيين، وأقل شراسة تجاه المهاجرين، لكنها ألطف قليلا تجاه اليهود السود.
ويمكن الإشارة إلى أن الموجتين اللتين جندت الحكومات الإسرائيلية جهودها وإمكاناتها وعلاقاتها المتشعبة، من أجل إحضار يهود الفلاشا الأثيوبيين عامي 1984 و 1991، إذ وصل عددهم إلى نحو 135 ألف نسمة، لم يقابل ذلك عندما استقروا وتم توزيعهم على بعض المستعمرات، ما يكافئ ويوازي تلك الجهود التي بذلت من أجل إحضارهم إلى فلسطين المحتلة من أماكن إقاماتهم الأصلية، ويبدو أن (إيهود باتاي) الشاعر الإسرائيلي كان يملك حدسا قويا، حين كتب قصيدة نثرية بعنوان «عمل اسود» صورت المآلات التي تنتظرهم، حتى في أيام تأهيلهم الأولى، في المعسكرات التي أقيمت لهم في منطقة طبريا، حيث جاء فيها «الإخوة داكني البشرة في مركز الاستيعاب في طبريا، يحاولون أن يستوعبوا ويستوعبوا، وهذا ليس سهلا، من عند الفخامة، من خلف جبال الظلام إلى الشارع المحلي، الرقمي، المشوش. لقد حلموا لسنوات بوطن، والآن هذه هي الحقيقة، أيضا في الوطن يحدث هذا، يستمر المنفى، وأنا رأيت في عيونهم ضوءا وأي ضوء، ومن يعرف إن كان إبراهيم لم يكن أسود البشرة!. الإخوة داكنو البشرة يسيرون حفاة على جانب الطريق، يحملون إهاناتهم وهم يسيرون نحو المدينة، يقفون أمام البناية، إنهم يقفوم أمام قلب من حجر، ينتظرون أن يفتح الباب من الداخل. لقد كانوا مخلصين، نعم. لقد انتظروا الإشارة، والآن ما تبقى لهم هو العمل الأسود.
٭ كاتب فلسطيني
سليمان الشيخ