عن إزمان المسألة الاجتماعية عندنا

تؤكد الاحتجاجات الأخيرة أن تاريخ تونس المعاصر منذ بداية دولة الاستقلال قد ظل يسير على وقع تقلبات المسألة الاجتماعية: مسألة الصراع من أجل العدالة في توزيع الثروات والتكافؤ في فرص العيش الكريم. ولهذا ما كان أي عقد، منذ أواخر الستينيات، ليمضي دون أزمة أو انفجار أو انتفاضة بسبب تدهور الأحوال المعيشية وتفاقم التناقضات المجتمعية وتراكم خيبات آمال الشرائح الشعبية.
وليست آمال الشرائح الشعبية وليدة أحلام أو أوهام، لا في تونس ولا المغرب ولا الجزائر ولا مصر ولا السودان، وإنما هي مبنية على أساس متين: إنه العقد الاجتماعي الذي استمدت منه دولة الاستقلال شرعيتها. وقد كان هذا العقد يتمثل في حفاظ جميع مكونات الشعب على الوحدة الوطنية (وهو ما كان يعني عمليا عدم معارضة نظام الحكم) مقابل تعهد الدولة بإنجاز وعود التنمية الاقتصادية. هذا هو السياق العام الذي انخرطت فيه جميع دول العالم الثالث، حيث أن معادلة التنمية الاقتصادية مقابل الولاء للنظام قد شكلت، في صيغ مختلفة، الأساس الذي أقامت عليه دولة الاستقلال شرعيتها في البلدان الإفريقية والآسيوية، التي كانت تسمى «البلدان السائرة في طريق النمو».
ونظرا إلى أن هذا العقد الاجتماعي، ذا المضمون التنموي، هو العقد الأنسب والأصلح للمرحلة التاريخية التي أعقبت تصفية الاستعمار في بلادنا العربية، فإن التجارب التاريخية الأقرب لأوضاعنا والأكثر إفادة لنا، لو أننا بذلنا الجهد اللازم للفهم والاقتباس، ليست تجارب دول أوروبا الغربية التي ما تنفك بعض النخب العربية تتغنى بها، وإنما هي تجارب دول مثل الصين والاتحاد السوفييتي. فقد كان على هاتين الدولتين أن تجابها القضية المركزية التي يتوقف عليها الاستقرار السياسي والاستمرار الوطني في الدول المتخلفة اقتصاديا: قضية مدى إمكانية (أو استحالة) التزامن والتضافر بين التنمية الاقتصادية واللّبرلة السياسية. ولكنهما جابهتاها بطريقتين مختلفتين. فقد قرر غورباتشوف بعد تسلمه السلطة عام 1985 أنه لا يمكن تحقيق البيرسترويكا، أو إعادة البناء (الاقتصادي أساسا) إلا في إطار الغلاسنوست، أو الانفتاح. والسبب أنه كان يعتقد أن حرية التعبير والتداول هي الشرط (وليست النتيجة) لدحر قوى التعطيل البيروقراطي والايديولوجي ضد الإصلاح الاقتصادي. كان يعتقد أن الحرية هي الشرط وليست النتيجة. هذا رغم أن مرشده ورئيسه يوري أندروبوف، الذي كان مديرا لجهاز الاستخبارات قبل أن يخلف بريجنيف في الحكم، كان يرى العكس تماما. صحيح أنه هو الذي أقنع بريجنيف بالتوقيع على معاهدة هلسنكي عام 1975، ولكنه كان يقول بشأن حقوق الإنسان التي تنادي هذه المعاهدة بإحقاقها: «بعد 15 سنة أو 20 قد نصير قادرين على التمتع بما يتمتع به الغرب الآن من حرية رأي وإعلام ومن تنوع ثقافي وتعددية اجتماعية. ولكن لا سبيل إلى ذلك إلا بعد 15 أو 20 سنة، أي بعد أن نكون صرنا قادرين على تحسين مستوى معيشة المواطنين».
ويتبين خطر هذه القضية (التي هيمنت على فترة حكم غورباتشوف) بمزيد من الوضوح عند النظر إلى الطريقة الصينية في معالجتها. فقد كان دينغ كسياوبنغ يشاطر أندروبوف الرأي، حيث كان يقول إن علينا أن نبدأ أولا ببناء اقتصاد ناجح يؤدي إلى إغناء الدولة والشعب معا، وعندئذ فقط يمكن أن نلتفت إلى مسألة التحويل أو التطوير السياسي. ولكن غورباتشوف كان يرى أن من المستحيل الأخذ بالنهج الصيني داخل الاتحاد السوفييتي. ذلك أن ما يسّر للحزب الشيوعي الصيني تحقيق استراتيجيته التنموية العظمى هذه، في تقدير غورباتشوف، هو أنه قد كان في وسعه التعويل على أخلاقيات الطاعة والانضباط المتأصلة في الحضارة الصينية. أما الاتحاد السوفييتي، فإن قيم الامتثال والانضباط قد أخذت تتلاشى فيه منذ رحيل ستالين.
لهذا سوف تبقى المسألة الاجتماعية، التي أزمنت عندنا إلى حد التعفن، هي أم القضايا في معظم البلاد العربية. وإذا لم تنجح الدولة في معالجتها بما ينبغي من صدق العزم وكفاءة التخطيط والتنفيذ، فإن قضية التحول الديمقراطي واللّبرلة السياسية قد تصبح هي كبش الفداء، حيث بدأت تتعالى بعض الأصوات الشعبية: أن أبقوا عندكم أيها الديمقراطيون ديمقراطيتكم وزينتها من «الحريات الشكلية» وأعيدوا إلينا دولة الرعاية الاجتماعية والحقوق الاقتصادية.

٭ كاتب تونسي

عن إزمان المسألة الاجتماعية عندنا

مالك التريكي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية