عن استقلالية علماء الدين التونسيين

لا تزال أنظمة الحكم العربية تتصرف كما لو أن مؤسسة الإفتاء الرسمية لم تفقد شيئا من مصداقيتها الشعبية. ولهذا فإنها كلما اتخذت قرارا قابلا للمساءلة من الناحية الدينية، طلبت من مؤسسة الإفتاء الرسمية بأن تفتي بشرعية القرار. ولكن لا يعرف إن كان استمرار الحكام العرب في الاستنجاد بمؤسسة الإفتاء صادرا عن اقتناع بجدوى الفتوى، أم أن التبرع الفقهي هو الذي يستبق الطلب السياسي!هذا هو السياق الذي يتنزل فيه، حسب رأينا، إعلان مفتي تونس تأييد ما ذهب إليه رئيس الجمهورية أخيرا من دعوة لمراجعة القوانين بما يسمح بالمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث.
ولسنا هنا بصدد إبداء رأي في مسألة المواريث، فهي من اختصاص الفقهاء، بل إن ما يهمنا هو مسألة استقلالية عالم الدين عن صاحب السلطة. إذ ان الوضع ينحصر في حالتين: إما أن يكون الحاكم مستبدا، بحيث لا بد من اعتبار ظروف التخفيف عند النظر في مسلك عالم الدين أو فتواه، أو أن يكون نظام الحكم غير استبدادي، بحيث لا بد من السؤال عما يجبر عالم الدين في هذه الحالة على أن يكون مؤيدا للحاكم تأييدا شبه آلي؟
ولعل القصتين التاليتين من تاريخنا القديم والمعاصر تضيئان المسألة. ذلك أن معاوية لما عزم على توريث الحكم لابنه يزيد، مدشنا بذلك تاريخا مديدا من «الملك العضوض»، كتب بذلك إلى الآفاق، كما يروي ابن الأثير، فبايع له الناس في سائرالأقاليم إلا الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير. فذهب إلى الحجاز معتمرا، وبعد أن توعّد كلا من هؤلاء الخمسة على انفراد، خطب، وهم شهود، فقال: إني كنت أخطب فيكم فيقوم إلي القائم منكم فيكذّبني على رؤوس الناس فأحمل ذلك وأصفح، وإني قائم بمقالة فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه. فلما اتّسقت البيعة ليزيد ووفدت الوفود من سائر الأقاليم، كان في من قدم الأحنف بن قيس، فأمره معاوية أن يحادث يزيدا، فجلسا. ثم خرج الأحنف، فقال له معاوية:ماذا رأيت من ابن أخيك؟ فقال: إنا نخاف الله إن كذبنا، ونخافكم إن صدقنا (..).
وقد يتبادر إلى الذهن أن أي عالم دين تونسي في عهد الزعيم بورقيبة كان سيخاف ويقول نفس مقالة الأحنف بن قيس. ولكن ما يرويه المفكر احميده النيفر في العدد قبل الأخير من مجلة «ليدرز» عن جده العالم الزيتوني الشيخ محمد البشير النيفر يؤتي الدليل على إمكانية استقلالية عالم الدين إزاء الحاكم حتى عندما يكون من طراز الزعماء الأفذاذ. إذ بعد أن طلب الشيخ البشير النيفر إعفاءه من الإفتاء والقضاء عام 1956، عينه بورقيبة في مارس /آذار 1957 إماما خطيبا بجامع الزيتونة، ولكنه رفض عام1960 ما دعا إليه بورقيبة من اعتماد الحساب في تحديد دخول رمضان وشوال. فكان ذلك بداية انقطاعه عن كل نشاط عام ولزومه بيته “منكبا في الجانب الأوفر على مشاغله العلمية».
وفي تفسير استقلالية الشيخ البشير النيفر إزاء السلطة السياسية أيا كانت، يقول الحفيد البار إن جده «استقال قبل الاستقلال أكثر من مرة من الإفتاء وكذلك من القضاء نتيجة ما صدر عن الباي (الملك) من مطالب (..). أما بعد الاستقلال وعندما أحيل مفتي الديار التونسية الشيخ العزيز جعيط على المعاش في ابريل/نيسان1960 لغضب الحكومة عليه عندما لم يستجب لطلب إلقاء كلمة في الإذاعة في إباحة فطر رمضان (..) دعا كاتب الدولة للرئاسة الباهي الأدغم الشيخ البشير النيفر لقبول منصب الإفتاء برغبة من بورقيبة. إلا أن الشيخ امتنع لجملة أسباب من بينها قوله: لو استفتتني الحكومة في ما لا يتفق واعتقادي فإني لا أساير رغبتها، ولو استفتاني الشعب فإني لا أفتي إلا بما أعتقد أنه الحق وإن خالفت ما عليه الحكومة. إلا أن الاستقلالية لا تعني القطيعة. فقد كان للشيخ النفير مراسلات مع بورقيبة، منها رسالة هامة حاول أن يثنيه فيها عن عزمه، عام 1957، حل الأحباس العامة والخاصة. ومما قال له فيها: من الميسور على حكومتكم أن تجمع بين احترام الأوقاف كما يلزم شرعا وبين الانتفاع بها في كثير من المصالح الدولية(العمومية) كمصلحة الري، ومصلحة الجندية ومصلحة الصحة بما يكون له الأثر الملموس في التخفيف من كثير من أبواب الميزان (الميزانية).

٭ كاتب تونسي

عن استقلالية علماء الدين التونسيين

مالك التريكي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ناهد تونسية:

    الدولة التونسية دولة مدنية الإسلام دينها بإعتباره دينا للشعب وعلى الدولة ان تحترمه، والإيمان من عدمه حرية شخصية مرتبطة بالعبد وربه ولا دخل للدولة او اي شخص آخر فيه ( من من يسمون انفسهم برجال الدين). الدولة المدنية ترتكز على القوانين وليس على الفتاوي. الا اننا نجد ان هؤلاء الكهنوت يفرضون وجودهم في كل المجالات العامة والخاصة ويتاجرون باسم الدين منذ عهد الدولة الأموية التي طوعت السلطة الدينية لفرض سلطتها السياسية ونحن نعلم جيدا ان السلطة الدينية لها تأثير قوي على العقل العربي المغيب فكريا والذي تميز بكونه عقل نقلي لا يفكر. وبالتالي من الواجب حذف مهنة مفتي والإستغناء عن وزارة الشؤون الدينية وتبقى المؤسسات الدينية محايدة وتعمل لخدمة الانسان.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية