مضت عدة عقود منذ أن نشر إدوارد سعيد مؤلفه الشهير: «الاستشراق». منذ ذلك الوقت لم تتوقف التحليلات والتعليقات على الكتاب الذي أصبح من اللوازم التي يجب الرجوع إليها والاستشهاد بها عند التطرق لهذا الموضوع.
الكتاب أصبح الأشهر والأكثر ارتباطاً بكاتبه من بين بقية مؤلفاته، لأسباب قد تعود في جزء منها لحيوية الطرح وعصريته، أو لذلك التأسيس الذي وضعه للمجال الذي سيعرف لاحقاً بدراسات ما بعد الاستعمار.
في مواجهة أسلوب الكتاب المعقد، الذي زادته الترجمات التي حاولت محاكاة اللغة العميقة للنص صعوبة، اعتمد كثيرون على الخلاصات التي قدمتها الرموز الثقافية، والتي جاءت في شكل قراءات مبتسرة يفسّر فيها كلٌ «الاستشراق» بحسب ما يريد ويهوى، حتى صار الكتاب في آخر المطاف أشبه بلوحات الفن التشكيلي التي تحتمل قراءات مزودوجة ومتناقضة. ما ميز إدوارد سعيد، وهو الأكاديمي المتخصص في الأدب المقارن، كان نجاحه في مخاطبة الغرب ليس فقط بلغته، ولكن أيضاً بطريقته في البحث والتنقيب الثقافي، وباتباع المناهج التي كانت رائجة آنذاك لمفكرين كميشيل فوكو وغرامشي وغيرهما. الأمر الذي ساعده على توصيل رسالته التي مفادها وجود ارتباط ما بين المدارس الاستشراقية والسياسات الاستعمارية، وهو ما يؤدي بالنتيجة لأن تظهر علوم الاستشراق التي تبدو معرفية محايدة في صورتها الحقيقية كمجرد أداة من أدوات الاستعمار.
هذا النجاح في مخاطبة الغرب بندية ومن دون تشنج سيسمح للكاتب بأن يقدم بشكل عقلاني انتقادات رصينة للفكر الإمبريالي الغربي من دون أن يسرف، كعادة أغلب مثقفي عصره في وصف الغرب بأنه أساس كل الشرور، أو للتبشير بنظرية المؤامرة الكونية. سينطلق سعيد من كل ذلك للتركيز على قضية فلسطين في كتاب خاص بهذا العنوان، وفي مقالاته الراتبة التي كانت موجهة للضمير الغربي. سيبتكر وهو يعالج هذه القضية تعبير «ضحية الضحية» الذي يجعل من الفلسطينيين ضحية لمأساة الهولوكوست واضطهاد اليهود في أوروبا. سيقدم هذه المقاربة وغيرها من المقاربات التي ستنجح في تعرية الاحتلال الصهيوني الجديد، الذي يجد رعاية من دول الاستعمار القديم، كما ستعري بشكل منهجي نادي الامبريالية الغربي الذي يتظاهر بكونه تجمعاً للديمقراطية وحقوق الانسان. يعتبر كثيرون أن كتاب «الثقافة والامبريالية»، الذي عاد فيه الكاتب للربط بين الروايات العالمية خاصة، ومسألة الامبريالية وتكريس الصورة النمطية والسلبية للشرق، يعتبرونه الجزء الثاني من الكتاب الأول «الاستشراق»، إلا أنني أعتقد أن مشروع سعيد لا يمكن النظر إليه إلا من خلال متوالية مترابطة تبدأ من ملاحظاته الأولى، التي تحولت لرسالة دكتوراه ثم إلى كتاب حول أدب جوزيف كونراد، وتنتهي بآخر ما كتب من كتب ومقالات.
خلاصة «الاستشراق» هي أن هناك صورة يعمد المستشرق لرسمها عن شعوب الشرق، وهي صورة تكون في غالب الأحيان زائفة لكن رائجة. هذا الموضوع، «الشرق المتخيّل»، الذي سبق إدوارد سعيد غيره بمحاولة مناقشته، سوف يكون عنواناً لكتاب تييري هنتش الصادر في عام 1988، الذي جاء مع عنوان جانبي شارح: «رؤية الغرب إلى الشرق المتوسطي».
إذا كان الكاتبان يتفقان على التسليم بوجود صورة يعمد الغربي على رسمها للشرق، فإنه يجب استحضار مقولة إدوارد سعيد التي حذر فيها هذا الشرق من «تشريق» نفسه، أي من الاستسلام للصورة والإطار الموضوعين من الخارج، اللذين سيفقدانه القدرة على رؤية نفسه، إلا ضمن ما تم وضعه ووصفه في كتب ودراسات الغربيين.
تحتل الحروب الصليبية موقعاً مهماً في صدر معظم الكتب التي تعرضت لدراسة مسيرة الاستشراق. في كتاب «الشرق المتخيل» سوف يتوقف هنتش عند شخصية صلاح الدين الأيوبي، وسوف يستشهد بما كتبه عنه مكسيم رودنسون حين قال إنه يمثل شخصية بطولية، وإنه كان لا يزال «يثير الكثير من الإعجاب لدى الأوروبيين».
شخصية صلاح الدين التي تميزت بالشجاعة والإقدام والفروسية الممزوجة بقدر كبير من النبل والإنسانية، كانت تمثل امتحاناً صعباً للنظرة الأوروبية للمسلمين التي كانت تصورهم كفرة وقساة قلوب أو مجموعات همجية بلا حضارة. التمادي في الإعجاب بهذه الشخصية لم يكن آنذاك مقبولاً بالنسبة للصليبيين، لكن نكران القدر العالي من المروءة التي تميزت بها لم يكن أيضاً ممكناً، وهو ما جعل البعض منهم يذهب كما يروي هنتش للقول «إن مثل هذا الفارس الفذ لا بد أن تكون له علاقة ما بالمسيحية».
من الطرائف هنا أن دانتي، الشاعر الإيطالي، سوف يدخل كذلك صلاح الدين الجنة في «الكوميديا الإلهية»، العمل الذي يتخيل فيه بعض تفاصيل الحياة الآخرة على طريقة أبي العلاء المعري في «رسالة الغفران».
من أجل الدفاع عن حب صلاح الدين بعد فشل محاولات تشويهه والإساءة إليه سوف تتعدد الروايات الخادعة التي ستحكي عن أمه المسيحية التي ورث عنها هذا النبل، أو عن تلفيق آخر يتعلق بتنصره قبيل موته، وكلها روايات لم تكن لتكتفي فقط باسترداد القدس، بل كانت تسعى، بحسب العبارة التي ينقلها هنتش عن دانييل كويرويل، «لاستعادة أشهر فاتحيها». لم تكن شخصية فاتح القدس هي الشخصية الوحيدة التي شكّلت عقدة أمام الأوروبيين، بل كانت هناك شخصيات أخرى كفلاسفة التنوير العرب، الذين تأثروا بهم وأحبوهم، ما أدخل عامة الأوروبيين من المؤمنين بالكاثوليكية المعادية في ازدواجية لا مفر منها، فهم يحبون تراث المشرق الفكري والثقافي ويطمحون لمحاكاته، في الوقت الذي يسيء فيه هذا الحب للصورة النمطية والمتخيلة التي يضعونها لأصحابها. لعلاج هذه الازودواجية سوف يعمد الأوروبيون، بحسب ما يذكر مكسيم رودنسون، لاختلاق فكرة لا أصل لها، وهي أن هؤلاء الفلاسفة ليسوا مسلمين تقليديين، بل يحملون اختلافات أصولية مع الديانة المحمدية، وهو ما جعل أولئك الفلاسفة والمثقفين يتعرضون للكثير من القمع والحجر.
هذا التلفيق الذي ساد فعلاً لقرون، بل لعله سائد حتى الآن في بعض الأوساط العلمية، مبني بشكل واضح على محاكاة الواقع الغربي في عصور ظلمته حين كان متشددو الكنيسة يلاحقون كل فكرة وكل اختراع بحجة الحفاظ على الدين. ذكر هنتش مسرحية فولتير «محمد» التي كتبها صاحبها بغرض الإساءة لنبي الإسلام وإرضاء للكنيسة، وهو العمل الذي تخجل النخب العربية المفتونة برموز التنوير الفرنسي من الحديث عنه أو التعرض إليه، لأنه لا يسيء فقط للإسلام، بل للصورة المتسامحة التي ترتبط بشخصية مثل فولتير.
سيتوقف هنتش عند فولتير وآرائه المتذبذبة والمتناقضة حول الإسلام، لكنه سيحكي كذلك عن علاقات أخرى صنعها أصحابها مع سحر الشرق كنيتشه الذي «عبر عن نفسه بفم زرادشت» وكشاتوبريان الذي غذت رحلته إلى الشرق شعريته وقريحته.
هكذا يمكن قراءة «الشرق المتخيل» كحوار مع أطروحة إدوارد سعيد، أكثر من كونه كتاباً وضع للرد عليها أو للدفاع عن مطلق التجارب الغربية. مثل سعيد أراد هنتش، أستاذ الفلسفة السياسية، لفت الأنظار إلى النقاط المضيئة بين الحضارتين في إطار بحث مشترك عن «هويات هجينة» تصلح بديلاً للهويات الأحادية الحالية المبنية على افتراضات غير واقعية من قبيل القومية والنقاء العنصري.
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح
احسنت مقال مفيد ومساهمة جيدة تلقي ضوءا على أطروحة احد ابرز المفكرين العرب في القرن العشرين لك مني الشكر والتقدير