قبل حوالي ثلاثين عاما، نفذ تيار الإسلام السياسي في السودان إنقلابا عسكريا، وأقام نظاما سيطر به على كل مفاصل العمل السياسي والإقتصادي والإجتماعي في البلاد، ولا يزال يسيطر. وطيلة فترة الثلاثين عاما هذه، ظل النظام يفرض سطوته على البلاد بقوة الحديد والنار، رغم المتغيرات الكثيرة التي شهدتها بنيتة، بما في ذلك محاولات إضفاء مسحة ديمقراطية، متحكم فيها وتحت السيطرة، على هذه البنية، خاصة بعد إتفاقية السلام الشامل في العام 2005. وفي الحقيقة، مسحة الديمقراطية المتحكم فيها هذه، وشخصيا لا أرى أي علاقة لها بالديمقراطية، ظلت تشكل حضورا في عالمنا الراهن، وخاصة في منطقتنا العربية، والذي يشهد تلاشي أنظمة الاستبداد والطغيان في شكلها الكلاسيكي القائم على خنق كل شيء عبر ديكتاتورية سافرة لا تسمح بإختلاف الرأي حتى ولو شكليا أو صوريا. ورغم وجود، ربما مثال أو اثنين لذلك النظام المتلاشي في عالمنا المعاصر، إلا أن العالم، ومنذ حقبة النصف الثاني من القرن العشرين، شهد تحورا وتحولا في بنية هذه الأنظمة نحو تبني المزيد من الانفتاح والديمقراطية، لكن في حدود الشكل والصورة فقط، أي الإبقاء على طابع النظام الاستبدادي، ولكن بصبغة مخففة ملطفة ناعمة الملمس، حيث يسمح لك بالصراخ كما وكيف ما شئت، ما دامت النتيجة هي فقط سماع رجع صدى صوتك!. ولعل درجة التخفيف واللطافة ونعومة الملمس في صبغة أنظمة الإستبداد والطغيان هذه، تتحدد وفق المستوى الحضاري والثقافي والأخلاقي لقادة هذه الأنظمة، وربما كان هذا هو السبب في إفتقار نظام الخرطوم وقادته لأي لطافة أو نعومة ملمس، عكس ما كان الحال في نظامي بن علي ومبارك في تونس ومصر.
غداة ذلك الإنقلاب، طرح شعب السودان، بشكل مباشر وعفوي، سؤالا محوريا وهاما، ولا يزال يطرحه حتى اليوم: ما هو هدف وغاية العمل المعارض المستمر منذ انقلاب الثلاثين من حزيران/يونيو 1989 وحتى الآن؟ هل أقصى ما نطمح إليه هو إحلال سلطة جديدة محل السلطة الحالية؟ وهل ننتفض ونطيح بالإنقاذ لنعود مرة أخرى إلى مربع الأزمة الذي وفّر مناخا ملائما لإنقلاب الإنقاذ؟ وما هو البديل الذي يوقف الحرب الأهلية ويضمن السلامة والأمان لبلادنا؟. ومن الواضح أن هذا السؤال المركب، لا يأتي بحثا عن إجابة غير معروفة أو تائهة، بل يحمل في طياته إجابة شافية تعبر عن رغبة جماهير الشعب السوداني في التخلص، ليس فقط من نير نظام الإنقاذ المدمر، وإنما من خناق الأزمة الوطنية الممتدة منذ فجر الاستقلال في بلادنا. ولعل السؤال يتضمن دعوة صريحة لقادة العمل المعارض، ليضعوه في مقدمة تفكيرهم ويفردوا له الإجابات الشافية، حتى يؤكدوا أهليتهم لموقع القيادة. أما الجماهير، ففي تعاملها مع هذا السؤال، لم تتخذ المنحى السلبي المنتظر الإجابة حتى تتحرك، وإنما انخرطت في نضال بطولي متعدد الأشكال، بذلت فيه تضحيات جسام بحق وحقيق. والاستفهام المركب هذا، هو وجه آخر لسؤال التغيير في السودان، السؤال الرئيسي الذي يتصدر مجموعة التساؤلات الكثيرة التي تسبح حائرة في فضاءات المشهد السياسي السوداني، والذي فرض نفسه بصورة جلية، بحيث لم يعد ممكنا تجاهله أو الصمت تجاهه، حتى في دوائر النظام الحاكم المختلفة، خاصة، والإجابة عليه، في إعتقادي، أصبحت مسألة وقت ليس إلا. وسؤال التغيير، يشق طريقه بقوة نحو الهدف، متسلحا بعدد من العوامل والمعينات التي تحققت على الأرض: الشعب متذمر وساخط من ممارسات النظام حد رفض العيش تحته، والنظام نفسه فشل فشلا ذريعا في إختبار الحكم وتقديم الحلول الناجعة لقضية الحرب وتوفير لقمة العيش للمواطن، والحكام يواصلون السير، بنفس طريقتهم الاستعلائية، في السياسات القشرية التي لا تلامس جذور الوجع، وكأن بصيرتهم عميت عن واقع البلاد المتدحرج بقوة نحو الإنهيار الشامل، ومع ذلك، لا يستحون من إستخدام القوة المفرطة، حد إطلاق الرصاص، لفض الاحتجاجات السلمية التي تطالب بالخبز ومياه الشرب. أما المثقفون والمتعلمون والمتدينون من خلصاء النظام، فلا يتحركون للجم هذه الممارسات، ولا لإيقاف الحرب، ولا لمنع تكميم الأفواه، ولا لوقف «المسخرة» الإقتصادية والفساد الطافح.
أمر طبيعي أن يحاول أي ديكتاتور، أو نظام شمولي، حماية نفسه بإستخدام كل وسائل القمع والقهر، لكن، وعلى مر التاريخ، لم تنجح كل هذه الوسائل في منع ثورات الشعوب. فجهاز استخبارات النميري القوي لم يستطع أن يمنع أو يفرمل إنتفاضة أبريل 1985. والقمع غير المسبوق داخل بيوت الأشباح، المدروسة والمطبقة بعناية لتعذيب المعتقلين السياسيين، لم يمنع تصدع الإنقاذ في نسختها الأصلية الأولى، وإضطرها، تحت الضغوط المتواصلة، لإعادة إنتاج نفسها في نسخ جديدة، نسخ الإنفراج وهامش الحريات المتحكم فيه وتحت السيطرة. والقوة الاستعمارية نفسها، بكل جبروتها، لم تستطع منع شباب شجعان من تكوين جمعية اللواء الأبيض..، والمقصلة لم تهزم عبد الخالق محجوب ورفاقه..، وسلاح السجن والصفع على الوجه لم يرعب الصحافيات الجريئات من مواصلة تصديهن لقضايا الوطن والناس…. الحالة السيئة التي تعاني منها البلاد، جعلت الأهداف السياسية عند كل الاحزاب والحركات تتشابه إلى حد كبير. لذلك، جميعها، إلا المكابر الذي لا يرى حركة التاريخ، يتفق على إنجاز برنامج قومى بديل يعالج تجليات أزمة البلاد في الاقتصاد والحرب والحريات. ومرة أخرى نكرر، إن شكل البديل يحدده معيار اختيار الهدف. ولأن الهدف لا خلاف حوله، بل متفق عليه بصورة ربما لم تحدث من قبل، فمن الممكن جدا الإتفاق أيضا على شكل البديل. وبالطبع، البديل ليس شخصا أو حزبا، بل دولة المؤسسات التي تضع مصلحة المواطن وحياته نصب أعينها، والتي تراجع وتحاسب ولا تخفي أي شيء عن الشعب الذي تخشاه وتهابه، والتي تضع في مقدمة أولوياتها الحرب على الفساد وإسترجاع المال العام المنهوب.
كاتب سوداني
د. الشفيع خضر سعيد