عن الجدول والجسر

حجم الخط
1

اسمه جريس عوّاد، مهندس من الناصرة، التقيته وتعارفنا عندما حضر ضيفا جلسة افتتاح مؤتمر اتحاد المهندسين الفلسطينيين، الذي عقد في رام الله منتصف الشهر الماضي. هو مهندس ومقاول ناجح، لكنه أصيب قبل سنين بمرض اضطره التقليل من ساعات عمله في اختصاصه، فملأ الفراغ الذي حظي به بوضع اول كتاب له، (من بين اربعة حتى الآن)، هو كتاب «الصدى ـ مئة قصة وقصة»، جمع فيه قصصا قصيرة، ذات مغزى، كما قال عنها على غلاف كتابه. ويقول عن تلك القصص، في مقدمة كتابه: «..قمت بصياغة معظمها، مع بعض التصرف…، كما قمت بترجمة بعضها من لغات اخرى…، وجميع هذه القصص مجهولة المؤلف والمصدر، ما عدا قصتين»….
لفتت انتباهي، واستحوذت على تفكيري، القصة رقم 11. هي قصة تتحدث عن شقيقين يملكان مزرعتين متجاورتين. وبعد سنوات عديدة من العلاقات الحميمة والطيبة والتعاون بينهما، نشب خلاف بين الأخوين، سرعان ما قضى على التعاون والتكاتف، وسرعان ما تطور إلى قطيعة كاملة بينهما. في صبيحة أحد الأيام اللاحقة، استيقظ الاخ الكبير وتفاجأ برؤية حفرة عميقة حفرها شقيقه بين مزرعتيهما، ودلق الماء فيها لتصبح جدولاً يفصل بين المزرعتين.
تصادف ان التقى الشقيق الاكبر بنجّار، فاعطاه كمية من ألواح الخشب والمسامير وأدوات العمل، واصطحبه إلى حدود مزرعته، وقال له ان شقيقه الأصغر حفر واقام جدولاً بين المزرعتين، ليثبّت القطيعة بينهما، وانه سيرد على فِعلة أخيه، ببناء حاجز خشبي بارتفاع كاف لكي لا يرى أخاه، ويمنع رؤية اخيه له. وطلب من النجار العمل بسرعة لينتهي من انجاز الجدار الخشبي ريثما يعود هو من المدينة القريبة التي قصدها لشراء بعض الحاجيات. أبلغ النجار الشقيق الاكبر انه فهم الوضع، وسيعمل بما يرضيه.
عاد الاخ الاكبر من المدينة عند العصر، وفوجئ عندما رأى النجار عند حدود مزرعته ولم يرَ الجدار، ولما استعجل الوصول إليه غاضبا، اكتشف ان النجار يكاد ان ينهي عمله بتثبيت الحاجز الثاني فوق جسر بناه فوق الجدول بين مزرعتي الشقيقين، وقبل ان يصرخ مؤنبا النجار، رأى شقيقه الاصغر عند حافة الجهة المقابلة من الجسر مادّاً يده باتجاه شقيقه الأكبر قائلا: «كم انت رائع يا أخي»… وتقدم الشقيقان كل باتجاه الآخر وتعانقا عند منتصف الجسر.
عندما انتهت «حفلة» العناق، لاحظ الشقيقان ان النجار يجمع ادواته ويهم بالرحيل. استوقفاه، وطلب الشقيق الاكبر من النجار التريّث، لأن لديه عملا آخر يريده ان ينجزه له. اعتذر النجار قائلا: «لديّ كثير من الجسور التي يتوجب علي بناءها».
طالت هذه المقدمة اكثر بكثير جدا عمّا قصدته بداية وخططت له في هذا المقال. واسمح لنفسي ان اقول، ليس من باب الصدق مع الذات، بل من باب التذاكي، الذي أُدينه قبل قارئي، ان هذا العبقري المهندس جريس عواد، هو المسؤول عن هذا الإسهاب.
لكن: إسرائيل، بالنسبة لي، ولجميع ابناء الشعب الفلسطيني كله، ليست الشقيق، وليست الأخ غير الشقيق ايضا، وليست ابن العم او القريب أيضا وأيضا. انها، في أحسن الحالات، الجار العدواني البذيء، المدجّج بالسلاح، والقدرات العسكرية، والتحالفات مع «زعران» عالمنا القبيح، ومع «بلطجيات» هذا الزمن الرديء، و… ربما مع بعض عهودٍ، ونواب عهود، في عهد زمن هذا العالم العربي المشين.
كذلك ايضا: ليس النجار الأمريكي، الرئيس دونالد ترامب، ذلك «الإنسان» في القصة. وان كان لا بد من المقارنة، فإن «النجّار» ترامب، لغاية الآن على الأقل، أُعطيَ خشباً، (هي بيانات ترحيب واستبشار، وهي مئات مليارات الدولارات ثمناً لأسلحةٍ موجهة لشقيق ولجار، وربما لمنافس ولخصم. لكنها، وبالتأكيد، ليست موجّهة للعدو الاول، إسرائيل). أُعطيَ خشباً ليبني جسراً، فبنى، بدل الجسر بين فلسطين وإسرائيل، حاجزاً وجداراً وحقل ألغام.
يسعى الرئيس الأمريكي لفك طوق العزلة عن إسرائيل، ولكن النتيجة حتى الآن، هي حشر أمريكا ترامب لنفسها داخل طوق العزلة مع إسرائيل. إذ، ليس أمرا عاديا ان تقف أمريكا منفردة في مجلس الأمن منعزلة حتى عن بريطانيا، اقرب حلفائها.
على أن أخطر ما يواجه العمل الوطني الفلسطيني الآن، هو التصرف بردة فعل عصبية، تمهد الدرب للعدو لتحقيق مآربه، والحاق الضرر بالانتفاضة الفلسطينية التي انطلقت فور اعلان الرئيس ترامب اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة لإسرائيل، والحاق الضرر بالاجماع الدولي الرافض لهذا القرار.
يجدر بالعمل الفلسطيني الاستفادة إلى اقصى حد ممكن من الأجواء الإيجابية للمصالحة الوطنية، لتتكامل الانشطة وليتم تنسيق التحركات وتوزيع الأدوار، من خلال تشكيل خلية إدارة للأزمة الجدية الحالية، ولتوجيه مجمل النشاطات على الساحة الفلسطينية، في ميادين العمل على الأرض، وعلى الساحة الإسرائيلية، باعتبارها الساحة الثانية من حيث الأهمية بعد الساحة الوطنية الفلسطينية، كما على الساحة العربية، وكذلك على الساحة الدولية السياسية والديبلوماسية، بتناغم يعطي اهتماما بجميع هذه الساحات، فلا يطغى اهتمام بساحة على أي اهتمام بأي ساحة.
شرط لازم للنجاح في ذلك، ان تكون خلية إدارة الازمة، من حيث تشكيلها، ممثلة لجميع القوى والتيارات الفلسطينية دون استثناء أو استبعاد، وأن تدار بأسلوب ديمقراطي واعٍ وملتزم، يمنع الاستفراد بالقرار، أي قرار كان.
تستدعي مصلحتنا الوطنية العليا، دعم وتوجيه التحركات الفلسطينية الجماهيرية المدنية على الارض، لتنشيط انخراط طلبة المدارس والجامعات وجميع الاتحادات العمالية والنسائية والاقتصادية والثقافية وغيرها فيها، وتوسيع ذلك ايضا، بتشجيع خلق لجان أحياء ولجان اصحاب مهن وما شابه ذلك، لضمان استمرار زخم التحرك، وصولا إلى انتفاضة فلسطينية شاملة، ضد جيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي وحواجزه وطرقه الالتفافية ومستوطناته/مستعمراته على أرض الدولة الفلسطينية. ذلك لا يعفي بقية اجزاء الجسد الفلسطيني الواحد، في دول اللجوء والشتات، من تولّي مسؤولياتهم، كل جزء بما يتلاءم مع وضعه وظروفه وإمكانياته.
لا يلغي الاهتمام البالغ والمتواصل، بالعمل على الصعيد الوطني الفلسطيني في مناطق احتلال واستعمار حزيرن/يونيو 1967، ضرورة العمل على ساحة العدو. ولا يضير العمل الوطني الفلسطيني بذل جهود بالغة الجدية، لبناء جسور تواصل مع جماهير يهودية غفيرة في إسرائيل، وقوى سياسية عديدة، تلتقي في طروحاتها وفي مواقفها، مع كثير جدا من اهدافنا الوطنية المعلنة، واولها واهمها إنهاء الاستعمار الإسرائيلي للدولة الفلسطينية، وسحب المستوطنين/المستعمرين من ارض دولة فلسطين إلى داخل خطوط حزيران/يونيو 1967، واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس العربية.
النشاط والعمل على الساحة الإسرائيلية، وفيها، هو مصلحة فلسطينية. هذا واجب فلسطيني. واعتقد أنه من المفيد جدا، ان يخاطب الرئيس الفلسطيني، ابو مازن، الإسرائيليين، من فوق رؤوس اركان الحكومة الإسرائيلية الموغلة اليمينية والعنصرية، وان يوجه الدعوة لقادة احزاب المعارضة الإسرائيلية، الذين تلتقي اهدافنا الوطنية الفلسطينية المعلنة، مع اهدافهم وشعاراتهم المعلنة، والتي يلخصها، حد الاختزال، شعار: «دولتين لشعبين»: دولة إسرائيل داخل «حدود» الخط الاخضر لاتفاقيات الهدنة مع «دول الطوق» سنة 1949، ودولة فلسطينية مستقلة، وفق تلك الحدود، وحل مشكلة اللاجئين وفق ما جاء في مبادرة السلام العربية، التي أقرتها القمة العربية في بيروت سنة 2002، والقمة الإسلامية لاحقا.

٭ كاتب فلسطيني

عن الجدول والجسر

عماد شقور

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي النويلاتي:

    لا يا سيد عماد، فإن حل القضية المركزية في القضية الفلسطينية، اللاجئين الفلسطينيين يكون من خلال قرار هيئة الأمم المتحدة رقم 194 والقانون الدولي الذي يعطي الحق لهم في العودة إلى أملاكهم والأماكن التي طردوا منها والتعويض لهم عن كل ما فقدوه وعن عذابهم ومعاناتهم وما خسروه نتيجة طردهم من وطنهم، إلى جانب التعويض للدول التي استضافتهم كل هذه السنين. هذا الحق مضمون لهم في القانون الدولي وقرار 194، وهو حق غير قابل التصرف من قبل اية جهة. وكما يعلم الجميع لن يكون هناك سلام ما لم يكون مقبولاً من قبل اللاجئين أنفسهم. ضحايا النازية من اليهود حصلوا على حقهم في العودة إلى دولهم كمواطنين بكامل حقوق المواطنة، وإستلموا مئآت المليارات من الدولارات تعويض على ما خسروه وما عانوا منه، فلماذا يحق لهم ذلك ولا يحق للاجئين الفلسطينيين؟

إشترك في قائمتنا البريدية