عن الدعوة والسياسة والجهاد والعصبيات: تأملات ومراجعات

حجم الخط
3

عندما بدأنا هذه التأملات، كان المنطلق تناول الحملة الموجهة ضد حركات إسلامية كانت طوال تاريخها مسالمة ومهادنة للأنظمة، خاصة في الأردن وبعض دول الخليج. وقد بدأنا بالتساؤل عن هوية وتركيبة الحركات الإسلامية المعاصرة، وخلصنا إلى أن هذه الهوية مركبة، وليست الرسالة الدينية سوى أحد مكوناتها المحورية. فقد اختلطت الأجندة الإحيائية بأجندات أخرى شكلتها توجهات قيادات وعضوية الحركات، وردود فعل خصومها وحلفائها. فقد استجاب لهذه الحركات أفراد ومجموعات كانت في معظمها من الطبقات الأدنى، بينما رفضتها في الغالب الطبقات المترفة، وليس هذا ببدع من أمر الدين. إضافة إلى ذلك، كانت هناك عوامل أخرى، قبلية وجهوية وطائفية وعرقية شكلت وجدان وأجندات الحركات. كما أن تحالفات الحركات مع بعض الأنظمة، خاصة الأنظمة الملكية في الأردن والخليج، ومعاداة الحركات القومية واليسارية لها، وكذلك الأنظمة المرتبطة بتلك التيارات، جعلت الحركات تنحاز لأطراف إقليمية معينة في صراعات المنطقة. كذلك تشكلت أجندات الحركات بالاستقطاب الطائفي الذي بدأ يتصاعد في العقود الأخيرة.
وليس هذا اللبس والالتباس بجديد في تاريخ الإسلام. فقد خلط كثيرون بين الإسلام والعروبة، بل والشوفينية العربية، خاصة في العهد الأموي، الذي أحيا القبلية والعرقية، وشجع عبر الشعر والأدب والتحالفات السياسية جاهلية الاستعلاء القبلي والعرقي المرفوضة إسلامياً، واحتفل بها في أشعار جرير والفرزدق والأخطل وغيرهم. وقد استمرت هذه النزعات حتى في العصر العباسي الذي أعاد في أول أمره التوازن وأعطى غير العرب بعضاً من حقهم، لم يسلم خطابه الثقافي السائد من هذه النعرات. وقد اختلط الصراع الأموي الهاشمي بصراع آخر بين القيسية (قبائل شمال الجزيرة العربية) واليمانية، وأثر بعد ذلك في الانقسامات الطائفية.
وقد استندت الصراعات بين المسلمين في غالب الأحيان إلى هذه العصبيات الجاهلية واستنفرتها، مما أدى إلى في نهاية الأمر إلى تفتيت ثم تدمير الخلافة والوحدة الإسلامية. وقد ذهب ابن خلدون إلى حتمية مثل هذه الاستقطابات، لأن السلطة لا تقوم بدون عصبية. ويعتبر ما نسب إلى أبي بكر رضي الله عنه من أن الأئمة يجب أن تكون من قريش لأن العرب لا تخضع لغيرها تصديقاً جزئياً لهذا الزعم.
ولعل ابن خلدون كان على حق جزئياً في تقريره بأن مصادر القوة الاجتماعية لا بد أن تستند إلى مقومات اجتماعية من تضامن اجتماعي وقوة مادية. ولا يخرج التحليل الطبقي والاجتماعي الحديث عن هذا المذهب الذي يتتبع مصادر القوة الاجتماعية في التضامن الطبقي أو العرقي أو القوة الاقتصادية. ولكن المعروف أن أي سلطة لا بد أن تستند إلى شرعية سياسية-أخلاقية تستند إلى التعبير عن هوية جامعة وقيم مشتركة.
من هذا المنطلق فإن الحركات الإسلامية الحديثة نتجت من وجود أزمة شرعية في المجتمع الإسلامي خلال العهد الاستعماري الذي قفز على مسألة المواءمة بين قيم الدين الإسلامي والحداثة، فأرسى واقعاً أغفل الإسلام تماماً في رسم السياسة العامة، وسمح للدين فقط بالوجود في مجال محصور. فعندما استولى البريطانيون على مصر والفرنسيون على الجزائر وتونس في القرن التاسع عشر، خرج التشريع من يد المسلمين، وأصبحت مرجعيته ومصادره غربية أجنبية. وقد أصبح هذا الواقع الذي واجهته حكومات ما بعد الاستقلال التي نشأ قادتها في كنف هذا الترتيب، فتخرجوا من مدارسه وعملوا في مؤسساته، حتى تحدث طه حسين –محقاً- في الثلاثينات بأن من يدعو إلى تحكيم الإسلام في تلك الظروف يصبح مثاراً للسخرية.
من هنا فإن الدعوة إلى جعل الدين محور الشرعية السياسية نشأت في هوامش المجتمعات الحديثة، ولم تستجب لها حتى المؤسسات الدينية الرسمية من أزهر ونحوه في بادئ الأمر. وكان غالبية من استجاب من الشباب والطلاب وبعض أفراد الطبقات الأدنى، خاصة بين الحرفيين وصغار المعلمين ورجال الدين المبتدئين. وخلال الصراعات التي نشأت فيما بعد غلبت على الأمر عوامل استقطاب جهوية وطائفية ما تزال آثارها ظاهرة. على سبيل المثال، فإن الصراع السياسي في السودان ونيجيريا تختلط فيه الهوية العرقية بالهوية الدينية بحيث يصعب الفصل بينهما.
وكنا نوهنا بضرورة الفرز بين الدعوة إلى التمسك بقيم الدين وأي دوافع أخرى، وهو فرز تزداد أهميته حين يتحول الصراع إلى نزاع مسلح. وقد جاء في الآية المحكمة التي تشرع للجهاد: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين». وليس الملفت التركيز على عدم البدء بالعدوان، وما جاء فيما تلاها بوقف القتال بمجرد وقف العدوان: «فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين». ولكن فوق ذلك، التشديد على أن يكون القتال في سبيل الله. فلم يقل النص: قاتلوا الذين يقاتلونكم، وإنما «قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم.» فحق الدفاع عن النفس ضد العدوان، أو القصاص العادل من المعتدي، مكفول شرعاً، ولكنه ليس جهاداً في سبيل الله. وفي آيات الإذن للقتال للمسلمين «بأنهم ظلموا» جرى التأكيد كذلك على تعريف الظلم بكونهم: «الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله». وهذا يختلف بما لو كانوا أخرجوا بسبب نزاع قبلي أو صراع على مال أو أمر آخر.
وقد وقع في زماننا هذا تورط الكثيرين، ومنهم الحركات الإسلامية، في توصيف صراعات عرقية أو جهوية كما لو كانت صراعات دينية أو قضايا «إسلامية».
من ذلك الصراع في كشمير، مثلاً، وهو صراع قومي بين الهند وباكستان، تصادف أن كان بعض أطرافه مسلمين إسماً. ولا يمكن توصيف مثل هذا الصراع بأنه جهاد بين مسلمين وأعداء الدين، لأن وضع المسلمين في كشمير لا يختلف عن نظيره في بقية أرجاء الهند، كما أن ما يتمتعون به من حريات دينية لا يختلف عما هو في باكستان.
بالطبع من حق المسلمين وغيرهم الدفاع عن حقوقهم الاقتصادية والسياسية وغيرها، ولكن هذه الحقوق أصبحت مكفولة في الديمقراطيات للجميع، مما يعني أن الواجب في هذه الحالة أن يكون الدفاع عن هذه الحقوق بالتضامن مع بقية المستفيدين منها. وقد أسلفنا في المقالين السابقين مقولة قطب ـ المودودي بأن الجهاد شرع لتحرير كل الناس من العبودية لبشر آخرين، كما أوردنا ما يكفي من الحجج للفصل بين الدعوة والجهاد. وكل هذا يشير إلى أن غاية تحرير العباد هي غاية مشتركة في هذا العصر بين المسلمين وغيرهم. وبالمقابل، فإن الدعوة تخص المسلمين وحدهم.
مهمة الدعوة هي تبيان الحق وتوضيح رسالة الدين، بدون مجاملة أو مواربة. وكنت قد أسلفت في تناول سابق أن قوله تعالى: «ولتكن منكم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» مع آيات أخرى تذكر بأن هذه مهمة ليست للجميع. وليس ذلك فقط لنقص العلم، بل لنقص القدرة. فكثير من قيادات الحركات الإسلامية تجد نفسها مضطرة للسكوت عن كبائر حلفائها من الحكام وغيرهم، بل وحتى خصومها. فالأمر بالمعروف يتطلب التجرد، خاصة عن الارتباطات السياسية والاقتصادية.
أما من شاء أن يشتغل بالسياسة، فيجب أن تكون مهمته هي تحرير كل العباد، أي بناء نظام ديمقراطي يكفل الحرية له ولغيره. وهذا يستدعي التحالف مع كل المستفيدين من الحريات، مسلمين وغير مسلمين، لتحقيق هذه الغاية. ومن اشتغل بالسياسة وزعم أنه داعية في نفس الوقت فإنه يقصر في مجال السياسة، ويسيء إلى الدعوة عندما يصور صراعاته السياسية مع الآخرين، وهي قد تكون حول المناصب والمصالح الدنيوية، على أنها خلاف حول الدين.

٭ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن

د. عبدالوهاب الأفندي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول tharwat gasim:

    شكرا على مقال جميل ولي بعض التعليقات .

    قال :

    ( ولكن المعروف أن أي سلطة لا بد أن تستند إلى شرعية سياسية-أخلاقية …)
    نسأل :

    وهل تستند سلطة البشير إلى شرعية سياسية- اخلاقية ؟ وسلطة حكام التوريث من امثال بشار وغيره ؟

    قال:

    جرى التأكيد كذلك على تعريف الظلم بكونهم: «الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله».

    نقول :

    ان تعريف الظلم اوسع من ذلك بكثير فالإستبداد ظلم ، والفساد في المال العام ظلم ، والتعذيب ظلم … كل ذلك وغيره ظلم مع عدم اخراج المظلومين من ديارهم رغم انهم يقولون ربنا الله .

    + ارجوان تنورنا لماذا حمل خادم الحرمين الشريفين معه في اجازته في الريفيرا ( الف ) مرافق ، بينما طائراته تدمر اليمن وسفنه تحاصر اليمن فتمنع عنها الطعام والدواء ؟ ولماذا يطلب الحماية من امريكا وهو يصرف 300 مليار دولار على شراء السلاح بينما ميزانية وزارة الدفاع الإيرانية ( المرتبات وتطوير السلاح ) لا تتجاوز 24 مليار دولار في السنة ؟ وقد دفع تكاليف حرب الخليج الاولى لامريكا على داير الدولار لان جنوده فروا من الحدود مع الكويت تاركين اسلحتهم لجيش صدام ؟

    + لماذا يرفض نظام السيسي السماح للسولار القطري بالمرور إلى غزة ويصر على خنق وتجويع الفلسطينيين بل ربما قصفهم مستقبلاً بالطائرات الأمريكية الصنع مع معلومات إستخبارية اسرائيلية ؟

    نورنا بهذه الأهوال

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    من ذلك الصراع في كشمير، مثلاً، وهو صراع قومي بين الهند وباكستان، تصادف أن كان بعض أطرافه مسلمين إسماً. ولا يمكن توصيف مثل هذا الصراع بأنه جهاد بين مسلمين وأعداء الدين، لأن وضع المسلمين في كشمير لا يختلف عن نظيره في بقية أرجاء الهند، كما أن ما يتمتعون به من حريات دينية لا يختلف عما هو في باكستان. – انتهى الاقتباس –

    كشمير اقليم اسلامي به أقلية من السيخ الهندوس

    حين استقلت باكستان كدولة اسلامية أراد اقليم كشمير اللحاق بباكستان
    لكن الهند رفضت ذلك ووافقت على الاستفتاء الدولي لتقرير مصير الاقليم
    ولكنها نقضت العهود ودخلت بحروب مع باكستان لأجل اقليم كشمير المسلم

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول سلمى:

    لابد ايضا من ابعاد الخطاب الديني عن المجال السياسي لأنه يشكل خلطا عند اولئك الذين ينبغي للسياسي الاهتمام بمصالحهم و تحريرهم و فيهمالمسلم و غير المسلم.

إشترك في قائمتنا البريدية