الثاني عشر من شباط/فبراير 2016 يوم تاريخي بامتياز. هو كذلك، لأنه شهد حدثا تاريخيا انهى حقبة من الزمن، وفتح حقبة جديدة، تحمل في احشائها احتمالات تطورات وتغييرات في التحالفات العالمية، مغايرة لكل ما عرفناه ونعرفه على مدى قرون عديدة.
في هذا اليوم انتهت، رسميا على الاقل، قطيعة عمرها ألف عام بين الكنيستين الأكثر عراقة: الكاثوليكية والأرثوذكسية. واذا كان العرب، بسطاؤهم وغالبية مثقفيهم، والغالبية العظمى لقياداتهم وسياسييهم ودبلوماسييهم لا يعرفون أهمية هذا التطور، ولا يعون إلى أي مدى هو قاعدة وأساس ومنصة انطلاق لأحداث وتطورات على مستوى الكون، فتلك مشكلة. ولا نبالغ اذا قلنا ان مشكلتهم تلك، هي أحد الاسباب الرئيسة لما نحن فيه من هوان، ومن حالة التأثر البالغ بالتطورات على الصعيد العالمي، وحالة انعدام التأثير في تلك التطورات، بما في ذلك التطورات في الساحة العربية ايضا.
صحيح ان كل ما شهدته القرون السابقة، أو قل الأربعمئة سنة الأخيرة بشكل خاص، من تحالفات واتفاقيات وتكامل وتوزيع أدوار، وما شهدته من صراعات ونزاعات وحروب بين أحلاف ودول وشعوب، سعى مدبروها وقادتها وأبطالها إلى النأي بأنفسهم عن الاعتراف الصريح بحقيقة وجود عامل حاسم، (بين عوامل أخرى)، هو الدين والطائفة، (بالمعنى الجمعي وليس الفردي) وراء وفي خلفية غالبية المواقف والسياسات والأفعال.
أُعطي مثلا بسيطا من التاريخ القريب جدا لما أحاول توضيحه: في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي تفككت جمهورية يوغسلافيا. فما كان لروسيا واليونان الارثوذكسيتان الا ان تكونا في صف الصرب الأرثوذكس، وان تعمل اليونان، (بدعم من روسيا التي لم تكن قد تعافت بعد من الضربة التي قضت على «امبراطوريتها» السوفياتية)، على مد صربيا بكل عوامل وأدوات القوة الممكنة، بما في ذلك تهريب المحروقات الواردة من القذافي إلى صربيا المحاصرة. وعلى الجانب الآخر، ما كان لايطاليا الكاثوليكية، مدعومة بفرنسا وسبانيا والبرتغال الكاثوليكية، إلا ان تكون في صف الكروات الكاثوليك. في حين ان لا «بكّايات» لأهل البوسنة (البوشناق) المسلمين، إلى ان تعرضوا لأول عملية إبادة جماعية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وحُوِّل نحو مليونين منهم إلى لاجئين، والى ان قُتل من رجالهم أكثر من مئة ألف شخص، واغتُصب من نسائهم ما بين 30 – 50 ألف امرأة، حتى استنهض قرار مجلس الأمن «هِمّة» أمريكا بيل كلينتون. وعلى هذا يتم القياس.
وأعطي مثلا آخر من التاريخ الحديث جدا، له علاقة بزلزال انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي دمر الأساس الذي كانت تقوم عليه قواعد «النظام العالمي» المعروف بـ»نظام القطبين»، (مع الاحترام الحقيقي لحركة عدم الانحياز): ربما لم يعِ كثيرون من قادة العرب أبعاد وعمق التأثير الحاسم للكنيسة الكاثوليكية في الإعداد والمبادرة في «صناعة» الخطوات الاولى، التي أدّت بتداعياتها إلى ذلك «الإنفجار العظيم». وللتوضيح: في مرحلة الإعداد (والتآمر) لتفكيك «الامبراطورية السوفياتية» التي تقودها روسيا الأرثوذكسية، كان على كرسي البابوية في الفاتيكان، البابا يوحنا بولس الثاني، البولندي الأصل، وبطريرك بولندا سابقا. وكان زبيغنيو بريجنسكي، البولندي الأصل، والكثير الزيارات لبلده الاصلي، (وتم تداول اسمه لاحقا ليكون اول رئيس لبولندا بعد انهيار الحزب الشيوعي فيها)، يشغل منصب مستشار الامن القومي الأمريكي، أي احد المناصب الارفع في بلد الـ «واسب» (وايت انجلو- ساكسون بروتستانت). والتقت المصلحة البروتستانتية مع المصلحة الكاثوليكية مع ظروف ملائمة داخل بولندا الكاثوليكية للخلاص من نير روسيا الأرثوذكسية، فتمّ «اختراع «ليخ فاليسا، القائد العمالي البولندي، وانطلقت عملية تحريك النقابات بدءاً من عمال الموانئ،.. ومنها إلى النتيجة الحتمية لما شاهده العالم من تفكك «الامبراطورية الأرثوذكسية»، ثم انهيارها بالكامل، بسرعة أذهلت حتى المتخصصين في دراسة التاريخ وأحداثه الكبيرة. لم يكن اختيار بولندا الكاثوليكية اعتباطا. (وعرفت من صديقي عبد الله حجازي، الذي كان سفيرا لفلسطين في وارسو فترة طويلة، ان الكنيسة الكاثوليكية بالنسبة للبولنديين ليست مجرد طائفة وعقيدة وطقوس، بل ترقى إلى درجة أقرب ما تكون من العرقية والوطنية، اذ بفضل تلك الكنيسة تحديدا، تشكلت دولة بولندا أساسا)، وهي إلى ذلك، كانت البلد الشيوعي الوحيد الذي يعترف بالتعليم الديني. وعلى هذا يتم القياس.
اعود بعد المثلين التوضيحيين إلى الحدث الأهم. حدث إنهاء القطيعة بين الكنيستين الاكثر عراقة، مؤكدا قناعتي ان الأمر يستدعي ندوات ومحاضرات وجلسات عصف فكري وتحليلات وكتب، لا مقالات صحافية فقط مثل هذا الذي أدوّنه هنا. وفي محاولة لايجاز ما أسعى إلى توضيحه، ألجأُ إلى اعتماد وضع الحقائق، كما اراها، في نقاط محددة منفصلة، يمكن لخيط ان يحولها قلادة كاملة، مكتملة الأوصاف. فأقول:
ـ بداية السعي لشق الكنيسة الواحدة الي كنيسة غربية وكنيسة شرقية للخلاص من سيطرة بابا الفاتيكان، كانت قبل ألف عام. وكانت الاداة هي إثارة خلافات حول مسائل واجتهادات دينية لاهوتية، ولو اخذ هذا الطرف وجهة نظر الطرف الآخر، لتبنى ذاك وجهة النظر المعارضة لما طرحه الجانب المقابل. كان الانشقاق هو الهدف. وكانت الجدالات هي الوسيلة. وتلا ذلك القرار. (وعندنا مثل ما عندهم: لو تبنى عرب الجزيرة الإمام علي وموقفه، لتبنى الفرس معاوية وموقفه)، ويمكن لصاحب الموقف المحايد ان يفهم ذلك ويتفهمه، ويعثر، بدون عناء كبير، على مبرر له ايضا.
ـ خلال الألف سنة الماضية من القطيعة بين الكنيستين الكاثوليكية والارثوذكسية تداولت على وضع «النظام العالمي»، وفرض قواعد وقوانين التصرف في حالتي السلم والحرب،اربع حِقَب وقوىً:
×× أولى تلك الحقب كانت الحقبة العربية الإسلامية السُّنية، التي فرضت هيمنتها وقيَمها ولغتها وقواعد التعامل على الصعيد الدولي، على ما كان معروفا من العالم، بدءاً من «بحر الظُّلمات» حتى الصين. انتهت هذه الحقبة رسميا بخروج (او قل طرد) العرب من الأندلس عام 1492، وهو نفس العام الذي اكتشفت فيه بعثة كولمبوس الأسبانية الكاثوليكية «العالم الجديد»: قارتي أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية اللاتينية (أي الكاثوليكية).
×× وثانيتها كانت الحقبة الكاثوليكية التي لم تُعمِّر كثيرا، بسبب تمرُّد انتهى إلى نشوء كنيسة مسيحية ثالثة كثيرة التّشظّي، هي البروتستنتينية (ذات الميول اليهودية الفاقعة)، بكل تشعُّباتها: من اللوثرية إلى الكالفينية إلى الانغليكانية، ووصولا الي المعمدانية والافنغليست وشهود يهوه وغيرها الكثير. وذلك بين منتصف القرن السادس عشر ونهايته.
×× وثالثتها كانت حقبة التحالف بين الكاثوليكية والبروتستانتينية وتشعباتها، مع غلبة واضحة للبروتستنتينية، حيث الامبراطورية البريطانية، (التي لا تغيب عنها الشمس)، ومنافستاها الصغيرتان الكاثوليكيتان، فرنسا واسبانيا، بالاضافة إلى البرتغال وايطاليا.
×× وفي ما يخص الحقبة الرابعة، فان الدور الريادي العظيم الذي لعبه الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية، في دحر النازية و»دول الحلف»، أهّله بجدارة لأن يشارك في تشكيل وفرض نظام عالمي جديد، بدأ بانشاء هيئة الامم المتحدة، وريثة «عصبة الامم»، والنظام العالمي الذي كان قد أرساه الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، صاحب «النقاط العشر». وترسخ هذا النظام العالمي الجديد تماما، بمُسمّاه «عالم القطبين»، ) الأمريكي/البروتستانتي والسوفياتي/الروسي/الارثوذكسي)، عندما أجبرت بريطانيا وفرنسا وعميلتهما اسرائيل اثر وبسبب، العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، على الانصياع، وبلا تلكّؤ، لأمر مشترك من سيّدي القطبين: ايزنهاور وخروتشوف.
ـ أدّى انهيار الاتحاد السوفياتي، احد قطبي نظام عالم القطبين، إلى نشوء «عالم القطب الواحد» الأمريكي، وليكون هو، منفردا، مالك القدرة على وضع النظام العالمي الجديد. لكن ذلك النظام وُلد مشوها ولم يُعمِّر لا كثيرا ولا قليلا. وخَلق ارباكا عالميا نشهد تبعاته ومآسيه هذه الايام. ونشهد بدء «عودة القطب المختفي». نشهد ذلك في اوكرانيا وفي جزيرة القرم وفي سوريا مؤخرا. ونشهد نهضة اوروبا الموحدة. ونشهد بداية يقظة صينية ويقظة هندية، بفضل تحول العالم إلى «قرية» يعرف كل واحد فيها كل سكانها، ويتابع كلَّ حدث فيها منذ لحظة حدوثه تماما. ونشهد بدء تململ في أمريكا اللاتينية يوحي بقرب يقظة. ونشهد، (مع الأسف)، أنهارا من دماء مئات آلاف العرب، وسيولا من ملايين العرب الباحثين عن لجوء في «دار الحرب»، وجميع القتلى والضحايا من العرب ومن المسلمين، وغالبية عظمى من القتلة هم عرب ومسلمون. ونشهد مؤتمرات لمحاولة وقف التقتيل، لا تعقد في «دار الإسلام»، وانما في «دار الحرب»، من واشنطن إلى جنيف، ومن باريس إلى فيينا. ونشهد: أن لا إله إلا الله!!!
ـ في الثاني عشر من فبراير / شباط الماضي، وبعد قطيعة، وخلافات، واختلافات، وبعد صراعات، وحروب دموية مريعة، أودت بأرواح ودماء ملايين من البشر، وبعد تطورات متوقعة، وغير متوقعة، وبعد نشوء واندثار امبراطوريات ودول وأنظمة حكم، غطّت الف عام، (تحديدا: 962 سنة)، التقى، وتعانق، واتفق، ووقع رأسا الكنيستين: الكاثوليكية والأرثوذكسية، على بيان مشترك.
ـ اختار بابا الفاتيكان، البابا فرنسيس، خشبة المسرح باتقان مخرج محترف: هافانا، عاصمة كوبا، حيث الدولة كاثوليكية، واما النظام فشيوعي (مُلحد). وحيث الموقع في اقصى غرب المحيط الاطلسي؛ تفصلها عن الولايات المتحدة (البرتستانتينية)، جغرافيا: عشرات قليلة من الكيلومترات، اما سياسيا: فقطيعة كاملة وحصار وعداء منذ العام 1959، كادت ان تتسبب بحرب عالمية ثالثة، نووية هذه المرة، ابان أزمة الصواريخ في أكتوبر / تشرين الأول ونوفمبر / تشرين الثاني 1962، (جون كندي – نيكيتا خروتشوف)؛ وتفصلها عن روسيا (الارثوذكسية)، جغرافيا: آلاف الكيلومترات، واما سياسيا: فتربطها علاقات تحالف متين مع روسيا الدولة حاليا، وروسيا الامبراطورية سابقا.
ـ أعدّ البابا فرنسيس، ومهَّد للقاء التاريخي، وللاتفاق الذي نحن بصدده بحنكة سياسي محترف: توسط لانهاء القطيعة بين الولايات المتحدة وكوبا، وهيّأ لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ولأول زيارة مقررة لرئيس الولايات المتحدة لكوبا في شهر ايار/مايو المقبل، بعد قطيعة متواصلة منذ العام 1959. (وبالمناسبة: قد يغير نتنياهو موعد وصوله المقرر إلى واشنطن، بسبب هذه الزيارة، ليصلها قبل مغادرة اوباما إلى هافانا، على أمل اللقاء به في البيت الابيض).
ـ أعدّ البابا فرنسيس، بحنكة وبحِرفية رجل تاريخ، كلماته الثلاث الأولى الموجّهة إلى البطريرك كيريل، «بطريرك موسكو وسائر روسيا»، عندما دخلا من بابين متقابلين إلى غرفة في مطار هافانا، لبدء محادثات مباشرة مغلقة، بعد ألف عام من انفصال الأرثوذكس الشرقيين عن روما، حين قال له بعد العناق وتبادل القبلات: «اخيرا…» وتابع بعد فترة صمت: «…نحن اخوة !».
أربع قوى في الارض أثبتت، في سنوات وقرون الألفية الثانية، أنها قادرة على فرض «نظام عالمي»، او المساهمة في ذلك. هذه القوى هي: العرب المسلمون السُّنة، الكنيسة الكاثوليكية بشكل مباشر أو من وراء ستار هو دول تأتمر بأمرها، مثلها الكنيسة الارثوذكسية، ومثلها الكنيسة البروتستانتينية. اين اختفى دور العرب المسلمين السُّنة ؟
لا يكتمل هذا المقال بدون السؤال: اين هو «الازهر» منارة العرب، الاسلام، السُّنة، من كل هذا التاريخ الذي نشهده ونراه بالعين المجردة»؟
كنت ساجعل عنوان هذا المقال «عن الكنيستين والأزهر وقُم»، لكنني اختصرته بالكلمات الثلاث الاولى، ولهذا سبب شرحه يطول.
عماد شقور