عن المقاطعة والمراوغة ووهم الإيمان الضعيف

يفاجئنا المخرج مرزاق علواش هذه الأيام بتصميمه الشديد على عرض فيلمه «مدام كوراج» في المهرجان السينمائي الصهيوني الذي يقام في حيفا، وقبله كان الكاتب بوعلام صنصال قد حلَّ (ضيف شرف!!) على مهرجان الكتاب الدولي في القدس المحتلة في مناسبة «الاحتفال بإعلان تأسيس إسرائيل»، وقبله فَجَعَنَا الطاهر بن جلون بزيارة للكيان الصهيوني، ولم يتوان عن الحديث حول عظمة الزيارة والمضيفين وعن صداقاته لعدد من الكتاب الإسرائيليين. وقبل هؤلاء بكثير، حلّ المسرحي علي سالم ضيفا على ذلك الكيان وتغنّى بديمقراطيته بأن أصدر «رحلة إلى إسرائيل» عن فتوحات الزيارة وديمقراطية الكيان.
لقد أثار انتباهي وغضبي في الأسبوع الأخير قيام كاتب مكرّس بنعي علي سالم ببكائية أشار فيها إلى زيارة على سالم قائلا: «اختصرته مصر في خطأ قد تثبت الأيام أنه صواب»، كما أثار انتباهي تعليق كتبته كاتبة، مكرّسة أيضا، على صفحة حملة مقاطعة الكيان الصهيوني تصف فيه المقاطعة بأنها: «موقف من باب أضعف الإيمان».
وبقدر ما في رثاء الكاتب من وهن وطني وإنساني بقدر ما في تعليق الكاتبة من جهل حقيقي للدور الذي تقوم به حركة المقاطعة وأثره على الكيان الصهيوني. ولأن التعليق في جوهره بمثابة كارثة في مجال فهم أي حركة مدنية أو ثقافية، أو فنية، بمعنى أنها تضع كل فعل إنساني «خارج الاشتباك المباشر» الذي نفترض أنها تمارسه وتستصغر سواه، في خانة أضعف الإيمان.
في ظنّي أن ثمة رخاوة موجودة في مواقف عدد من الكتّاب العرب في هذا المجال، وباستطاعة المرء أن يتحدث عن شواهد كثيرة، مثل حوادث التسلل في الخفاء وبصمت للمشاركة في مهرجانات تستضيف كتابا إسرائيليين، بدل أن يقوموا بالضغط على إدارات المهرجانات لدفعها لاتخاذ مواقف إنسانية تليق بالكتابة والفن كفعلين جماليين ضد القبح وانتهاك حرمة الحياة والحرية وتقرير الشعوب لمصائرها.
لقد اتخذ كثير من الكتاب العرب مواقف واضحة بهذا الشأن، ولم يرشوا ضمائرهم بالتغافل عن وجود كتاب إسرائيليين، أو بالحرص على السفر بصمت والعودة بصمت، وتحاشي الحديث مع الكتاب الإسرائيليين والتعامل معهم كأنهم غير مرئيين! والحقيقة تقول إنهم هناك ويقرأون أشعارهم وقصصهم، وينامون في الغرف المجاورة ويتناولون الطعام ذاته في المطعم ذاته.
لقد تخيل بعض الكتاب أنهم سيكونون من الخاسرين في معادلة الحضور والغياب هذه، وهذا وهم حقيقي يصل إلى حدود الجهل بالبشر في الأماكن التي يحلّون ضيوفا عليها، لأن هناك بشرا خارج إطار إدارات المهرجانات أكثر صلابة منا في الدفاع عن قضية فلسطين بشكل خاص.
لقد بدأت حركة المقاطعة من خلال أفراد آمنوا بها، قبل أن تتبلور في كيان شجاع تغطي نشاطاته اليوم أكثر من ثمانين بلدا. ولقد أثبتت هذه الحركة أن كل ما كان يلزمنا هو شجاعة أكبر لنملك القوة لكي نقول «لا» من دون أن نخشى شيئا.
إن تجاربنا الشخصية أمر ملموس، فهي شهادتنا على واقع عام يطحننا. إن الأسوأ من خسارة مهرجان هي خسارة الروح. ويمكن للمرء أن يستعيد حالات كثيرة، سأكتفي هنا بحالتين:
في عام 2004 كنت والروائي المصري الصديق جمال الغيطاني في مهرجان فوندامنتا بمدينة فينيسيا، وسألني أحد الحضور: ما وجه الشبه بين الشعر الفلسطيني والشعر الإسرائيلي؟!!
التفت إلي الغيطاني فوجدته متحفّزا لسماع الإجابة. وأخيرا أجبت باختصار: الشاعر الإسرائيلي يكتب شعره عن البيت الذي أخذه مني وأنا أكتب شعري عن بيتي الذي سأعود إليه.
حين عدنا من هناك كتب الغيطاني في زاويته في «أخبار الأدب»: «بحضور أكثر من خمسمئة مستمع تحدث إبراهيم بصراحة.. وما أثار إعجابي هو أن الناس ظلوا يصفقون عدة دقائق».
إن الافتراض المريض لدى البعض بأن العالم يحب إسرائيل، ولا يمكن الوصول إلى قلبه إلا من خلال مجاملتها أو التمسح بأقدامها كذبة كبيرة، وكارثة على مستوى الوعي الثقافي الذي يصاب بجرثومتها. فالعالم يحاورك وينتظر أن تقول له رأيك، ولا يتردّد في أن يأخذ بهذا الرأي إذا ما حاورته فعلا، ثم إنه في بعض الحالات، ولا أقول كلها يقدّر موقفك.
عام 2008، كتبتُ رسالة في الصحف الإيطالية موجهة إلى مدير معرض تورنتو للكتاب، أعلنت فيها رفضي المشاركة في نشاطات المعرض احتجاجا على استضافة إسرائيل كضيف شرف! بمناسبة الذكرى الستين لتأسيسها. كنت أظن أن إدارة المعرض لن توجه إليّ الدعوة ثانية، لأن حركة الاحتجاج اتسعت، بحيث اضطر إيهود أولمرت رئيس وزراء الكيان الصهيوني حينها أن يدخل المعرض من باب خلفي ويغادر المعرض بسرعة. لكن ما حدث بعد ذلك أن إسرائيل شنت حربها الإجرامية على غزة، وفوجئت في العام التالي بدعوة ثانية من إدارة المعرض، وقبل أن تبدأ محاضرتي جاء مدير المعرض وألقى كلمة قصيرة قال فيها: اعترف بأن إبراهيم كان على حق حين رفض دعوتنا العام الماضي.
أريد أن أقول إن ذلك كله ليس أضعف الإيمان، لأن هناك مهرجانات أخرى تُواصل عقابنا وتغييب أصواتنا، ولا تملك شجاعة هذا الاعتذار، لأنها لا تملك القدرة على فتح أعينها ومشاهدة الجرائم الصهيونية، وهذا ما لمسته ولم أزل ألمسه في فرنسا بشكل خاص.
إن هناك أكثرية ثقافية عربية تنادي بالمقاطعة وتمارسها باعتبارها فعلا مصيريا نلمس نتائجه على الأرض، فالكيان الصهيوني يضع المقاطعة اليوم، ضمن مهمّات الموساد، كثاني أكبر خطر يهدد هذا الكيان (بعد إيران)؛ وهو يقوم بتخصيص مئات الملايين من شواكله لمقاومة المقاطعة وملاحقة نشطائها للتضييق عليهم، كما يسعى لشراء الضمائر واستخدام نفوذ الحركة الصهيونية لإغلاق أبواب المؤسسات الأكاديمية والصناعية والإعلامية… في وجه أصحاب الضمائر الشجعان هؤلاء. كما أن من المتوقع أن تكلف حركة المقاطعة الكيان الصهيوني خلال السنوات العشر المقبلة خسائر مقدارها 40 مليار دولار، إضافة لما كلفته في السنوات الماضية.
لكن إحدى أهم المشكلات، التي يُجْمِع نشطاء حركة المقاطعة عليها، هي تلك الرخاوة القائمة في مواقف السلطة الفلسطينية، إذ في الوقت الذي يندفع فيه العالم للتحرر من بقايا التبعية البكائية لهذا الكيان، تبدو السلطة قابضة بكل أصابعها على ثوبه، وكأن هذا الكيان أمّها!
وبعد:
جلادكَ أضعف منك دائما
ما دام السوط منطقه الوحيد

إبراهيم نصر الله

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الزبير الجزائر:

    انا هنا اتحدث فقط عن اناقة الكاتب إبراهيم نصر الله ورقيه حيث لم يزج بجنسيات المطبعين في المقال واكتفى بذكر أسمائهم فقط تحية بحجم الصمود

إشترك في قائمتنا البريدية