■ هل يمثل الابتعاد عن الوطن إعلان إذعان للاستبداد الذي يسطو على مقدراته ويستبيح حقوق وحريات المواطن؟ وهل تصح، أخلاقيا وإنسانيا، المرادفة بين فعل الابتعاد وبين أن يلصق بالمواطن المبتعد جرم التنكر للطلب الشعبي على الديمقراطية الذي بدأت به ثورات وانتفاضات الشعوب العربية؟ إجابتي على السؤالين هي بلا قاطعة.
من جهة، أجبرت متواليات الاستبداد والإرهاب والتطرف والفساد أعدادا متزايدة من المواطنين على طلب الارتحال إلى حيث شيء من الحماية للحق في الحياة وشيء من الأمان لأطفال ونساء ومتقدمي عمر ورجال أدمت بعضهم الحروب الأهلية وجرائم العنف اليومي ضد المدنيين، وأرهقت بعضهم الآخر المظالم وانتهاكات حقوق الإنسان بتنوعاتها المتصلة بمبادئ المواطنة وبالحريات العامة والمدنية وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
صار ارتحال العرب هو حقيقة وجودهم الكبرى، وهو في جميع الأحوال ارتحال قسري لا يحضر به الكثير من المضامين الإرادية للفعل البشري.
لم تكن إرادة حرة تلك التي دفعت ملايين السوريين إلى طلب اللجوء في الجوار الإقليمي وإلى طرق أبواب الأراضي الأوروبية، بل كان الإلغاء الشامل لإرادتهم الحرة إزاء ديكتاتور يوسعهم قتلا وتعذيبا وقمعا وفي معية حركات معارضة مسلحة لا تتورع لا عن ارتكاب جرائم التهجير ولا عن ممارسة العنف في اتجاهات كثيرة. ولم يكن في الخروج الجماعي خلال الأشهر الماضية ما يبرر توصيفه كإعلان إذعان للاستبداد وتنكر للمطلبية الديمقراطية، بل حمل في الجوهر تعبيرا إنسانيا مؤلما عن انعدام شروط حماية الحق في الحياة داخل ما كان يوما دولة وعن بحث «المضطر» المكبل زمنيا ومكانيا عن سبل للنجاة وإن جاءت على ظهر مراكب الهجرة غير الشرعية وعانقت الموت عضويا. لم ينقلب السوريون الذين طلبوا التخلص من الاستبداد وغل يد الأدوات القمعية عن انتهاك حقوقهم وتمنوا عقدا اجتماعيا جديدا محدداته المواطن الحر والمجتمع غير المراقب والدولة العادلة على التغيير الديمقراطي الذي تحملوا سعيا إليه كلفة باهظة، بل انقلبوا على خطر الإفناء الجماعي وضياع الشعب كمكون وحيد متبق للوطن بعد أن انهارت الدولة وتكالبت على إقليمها معاول التفتيت.
وما يسجل بشأن الارتحال القسري للسوريين دون إذعان للاستبداد أو تنكر للمطلبية الديمقراطية، يقبل التوظيف لقراءة واقع تواصل ارتحال العراقيين الذين تلتحق اليوم موجات بحثهم عن الملاذات الآمنة بالموجات السورية الأعتى. ويمكن أيضا استخدامه لمقاربة واقع الأعداد غير القليلة للمواطنين الليبيين والسودانيين المرتحلين الذين إما ضاقوا من حروب الكل ضد الكل (ليبيا) أو من العنف الحكومي ضد الأقاليم المهمشة والمضطهدة (الحكم السلطوي في السودان الذي لم تتواقف عملياته العسكرية ضد السكان في دارفور وجبال النوبة وجنوب كردفان)، ويلقي بهم الارتحال على ظهر مراكب الهجرة غير الشرعية أو يدفع ببعض السودانيين بينهم إلى جنون مسارات برية تنتهي في إسرائيل.
بل ان مقارنة بين الارتحال القسري للسوريين، متبوعين عربيا بالعراقيين والليبيين والسودانيين، وبين ارتحال المصريين خلال العامين الماضيين لن تأتي مجافية للحقيقة أو متمردة على مقتضيات النظر الموضوعي.
يرتحل بعض بني وطني بعد أن أرهقتهم المظالم وانتهاكات حقوق الإنسان التي يستقوي بها الحكم السلطوي على الناس، ويعيد من خلالها تجذير ثقافة الخوف من الفرعون الحاكم. يرتحل بعضهم الآخر تجنبا لهيستيريا تبرير العقاب الجماعي ومأساة نزع الإنسانية عن معارضي السلطوية وجنون الاستقطاب، وهي العناصر التي باتت تسيطر على الفضاء العام وتشوه نقاشات عامة أضحت بها مفردات حقوق الإنسان مدانة مسبقا والحواجز الفاصلة بين حكم القانون وبين توريط القانون والقائمين عليه في جرائم استئصالية معدومة. يرتحل بعضهم الثالث امتناعا عن الإذعان للسلطوية التي تهدده بالتعقب والقيود والقمع، أو التي تستمرئ العصف بالضمانات الدستورية والقانونية لحقوق المواطن وتساومه على أمنه الشخصي والأسري وعلى ظروف معاشه وعمله فإما الصمت على الظلم وإما الاستعداد لهوية الضحية. يستوي هنا أصحاب الرأي الحر من كتاب وأكاديميين ومفكرين ومدافعين عن حقوق الإنسان باتت لهم منافيهم في بعض المدن الأوروبية وعلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية، مع أطباء ومهندسين ومهنيين شباب ومتوسطي عمر يرتحلون بأسرهم إلى حيث شيء من الأمن وشيء من حكم القانون وبعض الفرص المتاحة للعمل غربا وشرقا. يرتحل بعضهم الرابع ألما ويأسا من أغلبية صمتت على جرائم السلطوية وأجهزتها الأمنية والاستخباراتية منذ صيف 2013، وتماهت مع مكارثية شرعنت للقتل الجماعي في رابعة ولتخوين وتشويه المعارضين، ولم تغادر إلى اليوم خانات إنكار انتهاكات حقوق الإنسان أو تبريرها – بالقطع، إلا عندما تخاطب الأذرع الإعلامية للسلطوية والمتولية عملية «غسل الأدمغة» الأغلبية معترفة بوقوع بعض الانتهاكات كما في حالات القتل تعذيبا في أماكن الاحتجاز الشرطية، أو محتفية بجبر الضرر عن الضحايا ومفسرة له كدليل على «القلب الطيب» لرأس السلطة التنفيذية كما في حالة الإفراج المشروط عن الصحافية إسراء الطويل بعد تدهور وضعها الصحي والذي حدث قبل أيام.
في كافة هذه الارتحالات لا إذعان للسلطوية، ولا تنكر للمطلبية الديمقراطية أو تنصل من قيمها وآمالها وأحلامها. لست هنا، في باب إظهار تهافت وتفنيد استعلاء الأصوات التي تخرج على الناس بزيف مقولة «من يريد القضاء على الاستبداد وينشد التغيير، لا يغادر وطنا أو يهجر مجتمعا»، بمعول فقط على النخب المثقفة التي تواصل من منافيها الاشتباك مع قضايا أوطانهم موظفة لحضورها في الفضاء العام، ماديا كان أو افتراضيا. بل أضع نصب عيني الحكايات التي لا ينضب معينها عن حيوية عديد المرتحلين العرب الذين يرفعون مقومات الحياة البديلة بعيدا عن الوطن وفي بيئات مجتمعية بالغة الصعوبة، ولا يتوقفون في ذات الآن عن التفكير في هذا الرازح بعيدا تحت نير متواليات الاستبداد والإرهاب والتطرف والفساد وفي سبل تحريره.
كاتب واكاديمي مصري
عمرو حمزاوي
«من يريد القضاء على الاستبداد وينشد التغيير، لا يغادر وطنا أو يهجر مجتمعا»، وأضف إلى هذه المقوله ،،،لاينقلب على الشرعيه،،، حتى تكون المقوله زائفه تماما.
لا فض فوك استاذ حمزاوي وما زال في مصر من يصدع بالحق ويحترم مبادءه وضميره وانسانيته فحمدا لله ان مصر لم تمت وما زالت حية بأحرارها ومثقفيها تقاوم رغم قلتهم
خمس سنوات تقريبا مرت علي ثورات إصلاحية من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والحداثة والتطور , وضد الفساد والتخلف والجهل والفقر والبطالة . لكن العصابة التي بيدها السلاح والنفوذ , التي حولت الوطن الي دولة مشاع بدون شعب بإحتقارها إرادتة لعقود . مصرة علي الإستمرار في التسلط والحكم بالحديد والنار , بعد عقود دمرت فيها مجتمعاتها بإستيلائها علي كل مفاصل الدولة , وإحتكرت السياسة والتشريع والقضاء والإعلام ومنظمات المجتمع المدني , وللإستحواذ علي المال والإقتصاد ووسائل الإنتاج وسرقة مقدرات الوطن , لبناء دولة المواطن فيها قيمتة بمقدار ولاءة للشلة الحاكمة التي تدمر المجتمع بذريعة الأمن القومي , الذى سيكون أفضل حالا في ظل مناخ ديمقراطي حقيقي غير إستئصالي , وبرلمانات غير مفصلة علي مقاس عصابة ديكتاتورية حاكمة .