في 2011 و2012، قبل أن تعسكر الثورة السورية على وقع مذابح الديكتاتور وقبل أن تنسحب مصر بعيدا عن الانتقال الديمقراطي وتنقلب عائدة إلى حكم المكون العسكري – الأمني، ترددت في الفضاء العام على امتداد بلاد العرب أصداء نقاشات تفصيلية تناولت معاني ومضامين العلاقة بين المواطن والمجتمع والدولة وتوافقت على حتمية تجديدها بإنشاء عقد اجتماعي يواجه أزمات غياب التنمية المستدامة وغياب الحكم الرشيد وغياب سيادة القانون المستحكمة.
بدت حقائق وأسباب التأزم غير قابلة للإنكار. معدلات فقر وبطالة مرتفعة عبرت عنها بمأساوية حادثة انتحار الشاب محمد بوعزيزي، التي أشعلت غضب الشارع التونسي وانتهت بإطاحة ثورة الياسمين بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وحفزت تدريجيا شرائح مؤثرة من فقراء المصريات والمصريين ومن الشباب العاطلين عن العمل على المشاركة في ثورة يناير وطرح مطالبها الاقتصادية والاجتماعية «الخبز والعدالة الاجتماعية» التي بدأت كحراك سياسي سلمي (الحرية) للطبقات الوسطى المدينية.
هوة سحيقة فصلت بين الأغلبيات الفقيرة ومحدودة الدخل والمهمشة وبين الأقليات النافذة سياسيا واقتصاديا وماليا، راكمتها ثنائية الفساد المستشري وسيادة القانون الغائبة، ولم تجسرها خطط تنموية متوازنة، وارتبطت عضويا بتغييب الجماهير عن صناعة القرارات والسياسات العامة وبغياب الحكم الرشيد وبطغيان أدوات الاستبداد والقمع. خلال السنوات القليلة التي سبقت 2011 و2012 تصاعدت وتائر الاحتجاجات الاقتصادية والاجتماعية في بلدان كمصر وتونس والمغرب واليمن، والتقطت جموع المظلومين والمهمشين تدريجيا الخيط الرابط بين فقرهم وبين الفساد، بين المعاناة من محدودية الفرص الاقتصادية المتاحة لهم وبين القرارات والسياسات العامة التي تطبقها حكومات غير ديمقراطية، بين انهيار مستويات خدمات التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية المقدمة لهم وبين غياب إجراءات الحكم الرشيد التي لها أن تمكنهم من مراقبة ومساءلة ومحاسبة مؤسسات الحكم والسلطات العامة. ولم يكن مفاجئا أن تعبر الثورات والانتفاضات العربية عن اهتمام شعبي حقيقي بقضايا العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.
استمرار التداعيات السلبية لاقتصاديات الريع غير المنتجة (إن ريع الثروات الطبيعية أو ريع التحالفات الإقليمية والدولية) على البنى المجتمعية التي باعد الريع بينها وبين نشر النهج العلمي ومحاربة الجهل، وأفقدها القدرة على الابتكار والتمكين لطاقات المواطن الفرد والمبادرات الخاصة والطوعية، وسهل عليها الاستكانة لسطوة الفكر الأبوي، وغل يد القوى الاجتماعية الراغبة في الانتصار للعلم والعقل والتحديث (تحديدا الشرائح المتعلمة بين الطبقات الوسطى) عن بناء توافق عام حول طرحها، بل إن سطوة اقتصاديات الريع على البنى المجتمعية أطالت عمر الحكومات غير الديمقراطية في بلاد العرب التي سيطرت نخبها، في الملكيات كما في الجمهوريات، وفي بلدان الوفرة النفطية كما في البلدان الأقل حظا من الثروات الطبيعية، على الريع واحتكرت آليات توزيع عوائده وحددت من ثم هوية «الرابحين والخاسرين» ووظفت باتجاه الأولين ثنائيات «التأييد نظير العوائد والحماية» بينما استخدمت باتجاه الفقراء والمظلومين والمهمشين أدوات الاستبداد والقمع.
على امتداد بلاد العرب تفاوتت دوائر الرابحين ضيقا واتساعا، وتباينت حدة العنف الرسمي المصاحب لاستخدام أدوات الاستبداد والقمع في إخضاع الخاسرين. حضرت أيضا علاقات ارتباطية واضحة. فضيق دوائر الرابحين رتب تورط الحكومات غير الديمقراطية في بلدان كالعراق وسوريا واليمن ومصر وليبيا والجزائر في جرائم وانتهاكات ممنهجة ضد الأغلبيات الخاسرة، وصنع جمهوريات للخوف والفساد والإخفاق التنموي. خسرت السلطات العامة شرعية القبول الشعبي، وهيمنت على صناعة القرارات والسياسات العامة مؤسسات عسكرية وأمنية واستخباراتية (وأحيانا حزبية) لا قبل للناس بمراقبتها ومساءلتها ومحاسبتها، واختزلت بها معاني ومضامين العلاقة بين المواطن والمجتمع والدولة إلى القمع وتوابعه من تعقب وعقاب وتهديد فيما خص المواطن والإخضاع والحصار فيما خص المجتمع والاستعلاء على قيم العدل والحق والحرية والمواطنة فيما خص فعل الدولة.
أما اتساع دوائر الرابحين، إن في بلدان الوفرة النفطية أو في بلدان مثل الأردن ولبنان انتزعت بها التراكيب القبلية والعشائرية والطائفية من الحكومات غير الديمقراطية تنازلات متتالية بشأن توزيع عوائد الريع وتداخلت فيها عضويا نخب القبيلة والعشيرة والطائفة مع نخب الحكم، فحال دون حدة العنف الرسمي ووفر للمواطن حماية من القمع. استفادت حكومات الخليج من ريع الوفرة النفطية ومن التزام بعضها بشيء من ممارسات الحكم الرشيد لتمكين شرائح شعبية متزايدة من حياة بعيدة عن الفقر والعوز واصطنعت مقلوب المعادلة الديمقراطية «لا ضرائب ولا تمثيل» لتحويل المواطن إلى موضوع لصناعة القرارات والسياسات العامة ومتلق غير مشارك لنتائجها. في الأردن ولبنان، احتفظ المجتمع ببعض من الحيوية المستمدة من مشاركة القبائل والعشائر أو الطوائف في صناعة القرارات والسياسات العامة وعجزت الحكومات بمؤسساتها العسكرية والأمنية والاستخباراتية (القوية هنا والضعيفة هناك) عن الاجتياح الشامل للمجتمع وعن القمع الممنهج للمواطن. غير أن ثنائية «الممانعة المجتمعية والعجز الحكومي»، وبجانب تكريسها للعديد من تفاصيل أزمات غياب التنمية المستدامة وغياب الحكم الرشيد، لم تتطور أبدا إلى إشراك ديمقراطي للمواطن في إدارة الشأن العام بعيدا عن وصاية القبيلة والعشيرة والطائفة وتعويلا على حقوق وحريات الفرد وسيادة القانون.
تفاوت دوائر الرابحين والخاسرين كما وكيفا وتباين حدة العنف الرسمي لم يعنيا، إذا، خلاص بعض بلاد العرب من أزماتها المستحكمة في مقابل ديمومة معاناة الآخرين. فقط اختلفت تفاصيل المعاناة ودرجاتها، وتشابهت أحوال العرب من حيث سطوة اقتصاديات الريع وأدوات الاستبداد التي أجهضت قبل 2011 و2012 كافة محاولات إنشاء عقد اجتماعي ديمقراطي التوجه. بدت حقائق وأسباب التأزم غير قابلة للإنكار، وراجت في قلب الثورات والانتفاضات العربية طروحات «العقد الاجتماعي الجديد» التي نهضت على اعتراف مبدئي بحتمية تجاوز الريع والاستبداد وبحثت في تفاصيل التغيرات الجذرية الواجب إحداثها لإعادة تعريف جوهر ومضامين العلاقة بين المواطن والمجتمع والدولة على نحو ينتصر للتنمية المستدامة والحكم الرشيد وسيادة القانون.
في 2011 و2012، سجل الفضاء العام في بلاد العرب نقاشات ملهمة بشأن ضمانات حقوق وحريات المواطن، وإطلاق المبادرات الفردية والخاصة، وتحديث البنى الاقتصادية لتكتشف قيم الإنتاج والابتكار والمنافسة المفتوحة، والتأسيس لأطر دستورية وقانونية وسياسية لمراقبة نخب الحكم والسلطات العامة ومؤسسات الدولة وإخضاعها للمساءلة والمحاسبة العلنية، وإشراك المواطن والقوى الاجتماعية في صناعة القرارات والسياسات العامة بغية القضاء على اقتصاديات الريع وشبكاتها، وديمقراطية العلاقات المدنية – العسكرية، واعتماد آليات العدالة الانتقالية للتعامل مع تراكمات الاستبداد والقمع. غير أن هذه النقاشات التي وضعت العرب على أجندة الإنسانية المعاصرة لوهلة كفاعلين يعتد بطروحاتهم ما لبثت أن تراجعت سريعا لتصل اليوم في 2016 إلى حدود الانزواء، إما بسبب خرائط الدماء التي ينشرها مستبدون لا يتورعون عن ارتكاب المذابح والجرائم ضد الإنسانية للبقاء في الحكم، وجماعات إرهاب وعنف وتطرف تشيع القتل والدمار (المأساة السورية) أو بسبب تعثر مساعي تجاوز الريع والاستبداد والتراجع عن عمليات الانتقال الديمقراطي في سياق ثورات مضادة انتقامية (المأساة المصرية) أو لمزيج من السببين (كما في اليمن وليبيا) أو لدفاع مستميت من قبل نخب الريع والاستبداد عن «عقدها الاجتماعي البائد» وحربها الضروس (بالمال والسلاح والإعلام) على القوى الاجتماعية الراغبة في التجديد التنموي والديمقراطي.
هل هو، إذا، المربع رقم صفر الذي عدنا إليه في بلاد العرب بعد تضحيات بشرية ومادية هائلة تحملتها الشعوب بين 2011 و2016؟ الإجابة هي لا قاطعة، فذاكرة أزمات وإخفاق ما قبل 2011 لم تغب بالكامل بعد وبصيص الضوء الذي ألقته الثورات والانتفاضات على نفق الريع والاستبداد المظلم لم يزل محتفظا بشيء من الإشعاع في 2016.
٭ كاتب مصري
عمرو حمزاوي
الذي جرى سابقاً تعتبر إنتفاضات أما القادم فثوارت تقتلع الفاسدين من جذورهم لتؤسس دولة القانون والعدل والإنصاف
فالثورة الفرنسية إستمرت منذ سنة 1789 حتى سنة 1799 رغم رفض ملوك أوروبا لها
ولا حول ولا قوة الا بالله