لسنوات وسنوات، يصرخ الديكتاتور في الجموع التي تحشدها آلة الدعاية الرسمية وتزييف الوعي أو التي تأتي بها آلة القتل والقمع والاضطهاد والتهديد الدائم بالعقاب حال عدم الامتثال لإرادة الحاكم الفرد؛ المؤامرات تحيط بأمتنا العظيمة من كل جانب / الأعداء يتربصون بنا في الداخل والخارج، يرغبون في دمارنا وانهيار مجتمعنا ودولتنا / شرور هؤلاء لا نهاية لها، وسمومهم تلزمنا جميعا باليقظة لضمان حماية جبهتنا الداخلية ولدحر ما يحاك ضدنا خارج حدودنا / أمتنا مستهدفة، هذا قدرها وتاريخها العظيم وموقعها الجغرافي الفريد، وتوحدنا في مواجهة أعداء الداخل والخارج هو سبيل الانتصار النهائي / هل تريدون الانتصار النهائي؟ أجيبوني، هل تريدون النصر النهائي؟ / سنبلغه وستتبوأ أمتنا المكانة الكبرى التي تستحقها، فقط لنتوحد وننتبه لمؤامرات الأعداء ونضربهم في الداخل والخارج دون مهادنة.
يصرخ الديكتاتور في الجموع كثيرا محذرا من المؤامرات والأعداء والمتربصين، يصرخ ليغرس الخوف والشك والارتياب بين الناس فيلغي قدرتهم على التفكير بحرية والتعبير عن الرأي بحرية والاختيار بحرية، يصرخ ليمرر لهم حتمية الاعتماد الأحادي عليه إن أرادوا النجاة بأمتهم وبلوغ الانتصار النهائي. يصرخ الديكتاتور كثيرا ثم يسعى لارتداء حلة الحكماء والمخلصين ومبعوثي العناية الإلهية في بعض الأحيان، وفي جميع الأحوال يطلق أعوانه والمؤسسات والأجهزة الرسمية التي يسيطر عليها والنخب المتحالفة معه «خوفا وطمعا» على الناس يسومونهم سوء العذاب ويرتكبون الجرائم ويراكمون المظالم والانتهاكات ويخضعونهم لإرادته الانفرادية.
لسنوات وسنوات يصرخ الديكتاتور، وتغريه وتغري أعوانه محدودية الكلفة المباشرة للقتل وللقمع وللاضطهاد، تغريهم استساغة الجموع لتزييف الوعي وفاشية الخوف التي تفرض الصمت على الناس وتراجع أصوات معارضي الفاشية الذين يقتلون أو يسجنون أو يحاصرون في الداخل من خلال ممارسات عنف لفظي ومادي متصاعدة أو يرحلون إلى المنافي، يغريهم الضجيج المستمر لماكينة الدعاية الرسمية وتبشيرها الصاخب بالإنجازات الكبرى وبحب الناس للديكتاتور. يغريهم كل ذلك، ولا يلتفتون أبدا إلى ضياع مبادرات وطاقات المواطن الخلاقة أو إلى انهيار السلم الأهلي للمجتمع أو إلى تصدع مؤسسات وأجهزة الدولة بفعل تراجع ثقة الناس بها على وقع المظالم والانتهاكات المتراكمة، لا يلتفتون إلى أي من هذا وإن التفتوا فمصير المواطن التصنيف كمتآمر/عدو ومصير المجتمع التشكيك في قدرته على تحمل أعباء الانتصار النهائي وخذلانه للديكتاتور ومصير مؤسسات وأجهزة الدولة هو التضحية ببعض الرؤوس البارزة واستقدام رؤوس أخرى وادعاء تجديد دماء «نخبة الحكم» والتطهير – من ثم، يواجه المواطن المزيد من القمع والمجتمع المزيد من استعلاء الديكتاتور على واقعه وحقائق وجوده ومؤسسات وأجهزة الدولة المزيد من التصدع.
ثم تحل النهاية المأساوية – كما تخبرنا الصفحات الأخيرة في «سيرة» الديكتاتور وكما ترشدنا الفقرات النهائية في فصول الحكم الديكتاتوري التي تحفل بها كتب ومدونات تاريخ المجتمعات البشرية، تحل بعنف بالغ يزج بالمواطن والمجتمع والدولة إلى أتون حروب الكل ضد الكل العبثية، أو إلى دوائر الانتقام والانتقام المضاد وهيستيريا التصفية الجماعية والعقاب الجماعي، أو إلى مغامرات عسكرية خارجية مدفوعة إما باستسلام الديكتاتور وأعوانه إلى «خيالات المؤامرة والمتآمرين» التي يفرضون بها الصمت على الناس أو بالرغبة ذات الارتباط العضوي بطبيعة النظم الديكتاتورية والاستبدادية في توريط الشعوب في معارك خارجية وهمية لكي تتجاهل عذابات الداخل – وفي الحالتين سرعان ما تنزل الهزائم الكارثية بالديكتاتور وحكمه.
عندها 1) قد يفرض على الديكتاتور الرحيل ـ الرحيل هنا هو الجوهر والكيفية تختلف باختلاف السياقات التاريخية والجغرافية والمجتمعية، أو 2) قد يتحصن الديكتاتور بآلة القتل والقمع وبالأعوان وبالمؤسسات والأجهزة التي يسيطر عليها ويفرض على الناس حربا لا نهاية لها إلا بالدمار الشامل وتراكما مرعبا في جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة بحقهم في ممارسة تتشابه بنيويا مع ممارسات العصابات والجماعات الخارجة على القانون و»تتفوق» عليهم إجراميا لتوفرها على إمكانيات ما كان يشار إليها يوما كدولة ـ عوضا عن رحيله هو، يفرض الديكتاتور على الناس الرحيل نزوحا جماعيا أو ارتحالا جماعيا أو تهجيرا إجراميا، أو 3) قد يختفي الديكتاتور ويرحل القريب من الأعوان على وقع جنون حروب الكل ضد الكل ومأساوية الأوضاع المجتمعية وكارثية الهزائم العسكرية وقد يقبل تصنيفهم كمذنبين بل وكمجرمين، غير أن آلة القتل والقمع ومؤسسات وأجهزة الاستبداد تفرض بقاءها مستغلة بقايا الخوف لدى المواطن وعمق وضعية الوهن في المجتمع وتواصل حضور بعض حفريات الذاكرة الجمعية بشأن «الدولة» التي كانت مرهوبة الجانب ليس للعدل والحرية أو للتنمية والتقدم بل بفعل عنفها المختبئ من وراء «حق الاستخدام المشروع للقوة الجبرية» هنا تفرض منظومة الديكتاتورية والاستبداد البقاء في سياق ما يمكن تسميته «التحايل الديكتاتوري»، تضحي بواجهة الحكم القديمة وتستدعي واجهة جديدة سرعان من تشرع هي «أيضا» في الصراخ في الجموع وفي تجديد خلايا عبث أحاديث المؤامرات والمتآمرين وفي غرس الخوف وفي توظيف خدمة السلطان لكي تخلع عليها هي «أيضا» أردية الحكمة المختزلة في أفراد والأبطال المخلصين وأحلام الإنقاذ التي أبدا لا تتبدل طبيعتها المراوغة وتنزيلها الواقعي المستحيل.
متى نتعلم الدرس في بلاد العرب؟ متى تتعلمه الشعوب الأخرى التي يباع لها صراخ المستبدين بضاعة وحيدة لا طائل من ورائها سوى غرس الخوف وانتهاك الحقوق والحريات وتعطيل العقل في ظل عبث المؤامرة وادعاء البطولة المخلصة؟ متى ندرك أن حصاد الخوف وكبت الحرية وتعطيل العقل لن يكون غير النهايات المأساوية، لن يكون غير كلفة الفشل والتراجع، بل وكثيرا كلفة الهزيمة والانهيار الباهظة التي يدفعها المواطن ويدفعها المجتمع وتدفعها الدولة نظير مغامرات المستبدين؟ متى ندرك أن الاستبداد لا يعتاش إلا على الجهل والفقر والعنف والتطرف، وأن تجاوزه يمكن أن يدار على نحو منظم وتدريجي دون تضحية شاملة بقيم الأمن والاستقرار والرخاء (هذا إن كانت هذه القيم حاضرة في المجتمع المعني)، دون مساومة على الحقوق والحريات أو تنازل عن العدل وعن محاسبة المتورطين في المظالم والانتهاكات؟ متى نتعلم الدرس؟
٭ كاتب من مصر
عمرو حمزاوي
أترك التعليق على هذا المقال للعلمانيين
ولا حول ولا قوة الا بالله
كل الاحترام لشخص الدكتور حمزاوي. برغم عدم اتفاقي معه ايدلوجيا ولكن احترم اتساقه مع ذاته وصدق ايمانه بقناعاته.
السيد صاحب المقال ينفي أن هذه الأمة تتعرض لمؤامرات عديدة الهدف منها اضعافها و تفتيتها على أسس طائفية و عرقية و عشائرية .لنأخد مثل بسيط عن ذلك ، عند بداية الأحداث الدرامية في ليبيا بشرنا منظرو ما يسمى الربيع العربي أن العقبة الوحيدة لحرية و تقدم و ازدهار ليبيا هو الشهيد معمر القذافي رحمة الله .الآن بعد أربعة سنوات من تلك الجريمة النكراء في حق الشعب الليبي التي سخر لها جميع أنواع المكر و الخداع و الكذب و النفاق و القصف الإعلامي العنيف لم نعد نسمع عن لقاءات ” أصدقاء ليبيا” الأسبوعية و لم نعد نشاهد المنظرين المبشرين بالديمقراطية و حقوق الإنسان من على شاشات الإعلام فقد اختفوا جميعا .
لماذا لا تحقق تحليلات واراء الدكتور حمزاوى نتيجة
هل لانها ناقصة و غير عميقة
ام لان دعاية المستبد اقوى
ام لان الشعوب جاهلة وغبية ولا تتعلم
هو يقول ان دعاية المستبد وغباء الشعوب هما السبب
كلام جميل ومنمق،،،،لكن السؤال هو من إستجاب لصرخة الديكتاتور؟
متى تفهم النخب الثقافية ان الفقر و الديمقراطية لا يجتمعان ؟
تحية للسيد الكاتب وللقراء وللقدس العربى ..
مقال اكثر من رائع سواء من ناحية اختيار الالفاظ والابداع او من ناحية التوصيف والتصوير للحالة الدكتاتورية !!
لكن ومع كل الاحترام والتقدير ….
كيف لمن يكتب مقال غاية فى الابداع عن الدكتاتورية كيف لة ان يكون فى صف عصابة العسكر ( فى بداية الانقلاب طبعاً ) ؟؟
هل كان يتصور الكاتب ان عصابة العسكر الحرامية يمكن ان تأتى بديمقراطية ؟؟ او ان خيراً ما يمكن ان يأتى بعد انقلاب عسكرى ؟؟
هل يمكن للكاتب ان يذكر مثالاً واحداً لاى دولة من العالم حدث فيها انقلاب عسكرى وتقدمت هذة الدولة خطوة واحدة للأمام ؟
السيد عمرو حمزاوي تكتب باطن الفرد العربي ولكن يا خساره اتيت مناخرا وقد اخذها المواطن العربي أبره الخوف أبره مسح الدماغ أبره الاستقبال وشط كل ما يتعلق ب الارسال ان حاولت استخدام اشارات الإرسال ثق تماما ارهابي وجهزوا ملفك للامر الناهي كلمه لا اله الا الله أصبحت مراقبه ولا تقال الا عند موعد الصلاه!!!!! والا فأنت ارهابي !؟او من الاخوان او من مسميات جديده لهذا الدين!!!! اتذكر وهم يغذون عقولنا إياك ولسياسه والتدخل بشؤون الوطن !!! والا فنهايتك حتما غيرمعروفه!. سيدي حمزاوي اسمحلي مخدرهم تشبع في عروقنا! وأي بديل يمكن لهذا العقار ؟؟كي ينظف عروقنا؟! متى ننتفض متى!!! متى!!!!! جئت متأخراً والله !!! اللعبه علينا حبكت ومن كل الجهات ، ولعيون المستبد ارواحنا تزهق !!! كي ينام قرير العين !بلادنا أصبحت مرتعاً لقطيعهم وقطيع جيرانهم وجيران جيرانهم !! سيدي حمزاوي اهدء هداك الله وهدانا معك تقلب المواجع وتطير رؤوسنا من الوجع !!!ما السبيل وكيف ؟ كيف لأوطاننا اي يعود الرخاء بها وما السعر؟!!
(دخل الفاس ب الراس) كفاااااانا ما الحل ما الحل!!؟؟؟؟ ولحبيبتنا القدس العربي اشهد ان كُتابك ضمير المواطن العربي الحر.ادامك وادام اقلامهم ..نهاركم كله سعيد يااا رب
تحية الى السيد عمرو حمزاوي،نحن يا اخوة بحاجة الى كل كاتب وإعلامي صاحب ضمير مثل حمزاوي وغيره،لا مانع عندي الى اي فكر ينتمي،المهم في الكاتب العربي وفي هذه الظروف ان يقول الحقيقة،ان يعبر عن الواقع ان يبعد عن التدليس والمراهنة والمنفعة الشخصية،اما ان نقول لكاتب او إعلامي انك علماني او إسلامي او موالي للنظام،هذا شيء لا أوافق عليه،بل هو نقص في الأفق والحريّة في انتقاد اي كاتب،الا اذا كان فعلا يدافع عن النظام،فإذا دافع اي كاتب عن اي نظام عربي فهو منتفع من ذالك النظام،منحن بحاجة ماسة الى كتاب من النخبة الوطنية الحقيقية لكي يؤثروا في العامة في كل الوطن العربي،والكلمة ربما تكون أقوى من السلاح،وشكرا
الذي لم يعجبه كلام الدكتور حمزاوي نقول له ما قاله عبد الرحمن الكواكبي صاحب كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد (ان الأمة او الشعب الذي لا يشعر بالظلم و لايقاومه لا يستحق الحرية).
الأنظمة الحالية ستقود الشعوب العربية الى الجحيم و مادامت الشعوب راضية بالأنظمة التي تستعبدها فلتذهب لمصيرها ……..وكما تكونوا يولى عليكم