كان خالد في حاجة إلى أن يبدو منفصلا عن مدينته حتى يرى ما نراه منها، نحن المشاهدين. في كل نزول له إلى الشارع تفاجئه الزحمة والصخب والوجوه المنهكة من الفقر والإهمال، بل يفاجئه المكان نفسه بعمارته التي لم تعد توحي إلا بأن من هم هنا لم يرثوا من الماضي إلا عتقه وخرابه. فعلى الرغم من الفخامة الباقية في الأبنية، الفخامة المهملة المتروكة للزمن، تبدو تلك الشوارع على مسافة خطوة واحدة مما نشاهد في عشوائيات آسيا الأكثر فقرا. أما عيش البشر في ذلك الفقر، فيحتاج إلى كدّ وتعب ظاهرين على الوجوه، التي كانت كاميرا المخرج تامر السعيد تعود إليها مرّة بعد مرّة.
كأن خالد لم يكن مواكبا لذلك التردّي، هو المقيم في مدينته القاهرة يجوب في شوارعها كل يوم. كأنه كان مسافرا، وها هو يعود إليها بعد غياب طويل. وإذ نشاهده عابرا تلك الزحمة، يخيّل لنا أن لا أحد يشبهه من كل أولئك العابرين حوله. وحين نراه يكلّم أحدا من هؤلاء، وهو سمسار العقارات الذي كلّفه خالد بالبحث عن شقة له، نجد أن لغة التخاطب والتفاهم لن تجمع أحدهما بالآخر.
وإلى ما يؤكّد انفصال الشاب عن مدينته، اكتشافُه كيف غيّر الناس داخل الأبنية مثلما غيّر الزمن خارجها. ففي كل طابق يبلغه المصعد ألصقت على الحافة آية قرآنية، وهناك صوت مقرئ يملأ المبنى كلّه، لأن أحد الساكنين في إحدى الشقق يريد أن يعلم الجميع بأنه هنا. وإذ ينفتح باب أحد البيوت للسمسار ولخالد مرافقُه تظهر امرأة لا يبين من وجهها إلا ما يكشفه الحجاب من عينيها.
خالد متفرّج على مدينته، حتى أولئك الذين يعلنون احتجاجهم بأصوات صارخة في مواجهة قوى الشرطة منفصلون عنه. من دون أن يبدي أي ردة فعل، راح ينظر إلى رجال الأمن وهم ينهالون بالعصي الغليظة على فتى كان في التظاهرة. لا أكثر من أنه توقّف قليلا، ونظر قليلا، ثم أكمل سيره العادي. هو ليس واحدا من المحتجّين، إذ له سبيله المختلف في تلقّي انهيار المدينة وتراجعها. يريد أن يكون شاهدا على كونه ضحيّة، تساعده كاميرا التصوير التي يظلّ متأبّطا إياها الوقت كلّه. وما يساعده على ملاحظة الاختلاف الشاسع بين ماضي القاهرة وحاضرها، بل ماضي الإسكندرية وحاضرها أيضا، هو استنطاقه المستمر لإحدى قريباته عن منزلها هناك، كيف كان وكيف هو الآن. وقد سجّلت كاميرته لقطات في غاية القوّة عن تدمير منازل أخذت تتساقط قطعها التي لا يقل حجم بعضها عن حجم جدار كامل. وقد كان التسجيل الصوتي لذلك «التدمير» في قوّة المشاهد ذاتها. إنها القاهرة تُهدم لتبنى من جديد، فيما هو، عاجز عن إيجاد مكان له يقيم فيه.
ثم أن البناء الجديد، إذ ينهض، لن يُنهض المدينة معه. هذا ما يقوله الفيلم «آخر أيام المدينة» فما يهم هنا هو الهدم فقط، والتراجع في كل شيء. في ما خصّ خالد لم يعد يجد ما يمكن أن يبقيه هنا، أو ما يبرّر لنفسه هذا البقاء. لقد انفصل عن حبيبته، وها هي تأتي لوداعه، لكن من دون أن تنجح ذبالة علاقتهما الباقية في التأسف على انفراطها. ثم أنه لم يستطع وصل نفسه بماضيه، فها هي أمه تحتضر في المستشفى وتمتنع، أو تعجز، عن قول كلماتها الأخيرة عن سنوات حياته الأولى.
القاهرة، فيما هي تنهار وتعيش آخر أيامها، تأخذ مَن فيها إلى الانهيار. هكذا تفعل بيروت، كما في الفيلم أيضا، وبغداد. حين يجتمع خالد وأصدقاؤه الآتون من مدنهم، نسمع منهم ما يتجاوز كلام السينمائي العربي المعتاد عن يأس الناس من بلدانهم. الشاب القادم من بيروت، للقاء أصدقائه في القاهرة، لا يتوقّف عن إعلان يأسه منها. والشاب العراقي يدفع رفاقه إلى مناقشة خياره العيش في برلين.
ليست القاهرة وحدها إذن، وليس خالد وحده. إننا في نعي تام للعالم العربي جميعه، ولجيله، بل أجياله الجديدة كلها. هذه إضافة من المخرج نقلت فيلمه من أزمة مدينة إلى أزمة مدن، ومن إحباط أحد الشبان إلى إحباط الجيل العربي. لم أستطع، فيما أشاهد الفيلم، إلا أن أرى في تلك الإضافة التحاقا بموجة كلام شائعة الآن، كما كانت شائعة أيضا في سنة 2009 حين بدأ العمل بالفيلم، يعدّد البلدان الجارية فيها الحروب. ربما كان يمكن جعل هذه الرفقة المحبَطة موضوعا لفيلم، لكن كان ذلك يستدعي أن لا ترافق ذلك مسائل إضافية كثيرة، إذ تكفي موضوعا تلك الرفقة العربية، هذا إن أمكن للعمل الذي يتناولها أن يتفادى الافتعال.
هو فيلم إذن عن حميميات خالد، لكن أيضا عن الجيل العربي ممثلا بصديق لخالد من لبنان وصديقين من العراق (لقي أحدهما مصرعه بانفجار هناك في البلد الذي أصرّ على البقاء فيه، بخلاق رفيقه، مواطنه الآخر، الذي لا بد نجا وهو هناك في ألمانيا). لا أعرف إن كان الفيلم نجح في الجمع بين ما هو في ضيق أزمة فردية وبين ما بات مأساة عربية عامة. ربما كان في ذلك الجمع امتحان لنا، نحن مشاهدي الفيلم، أن نضع ما شاهدناه في سياق مترابط مقنع.
عن فيلم «آخر أيام المدينة» الذي يعرض الآن في صالات عربية.
كاتب لبناني
حسن داوود
كيف سيكون الوضع والحال لو كانت مصر بحجم دولة مثل الهند او الصين او اندونيسيا؟ انا اسئل هذا السؤال باعتبار مصر هي ام الدنيا واكبر واهم دولة عربية.