عن كارثة لا أريدها لبلادي

الجزء الأول
تعيس للغاية أن ينزلق ما تبقى من الحركة الديمقراطية في مصر إلى خانات تخوين الحكم، وإطلاق اتهامات العمالة باتجاه نخبته، والتورط في نزع الوطنية كوسيلة لإدارة الخلاف عوضا عن العمل المعارض المنظم.
تعيس للغاية أن يقبل كتاب وأكاديميون وإعلاميون يدعون الدفاع عن الليبرالية والتعددية والتنوع والحقوق وحرية النساء على توظيف مفاهيم تحمل دلالات رجعية وجنسية كالعرض (شرف المرأة) لحشد التأييد الشعبي للدفاع عن «مصرية» جزيرتي تيران وصنافير (الأرض عرض) بدلا من الانفتاح على نقاش موضوعي حول حقائق التاريخ والجغرافيا والسيادة. ولا يقل عن ذلك تعاسة أن تنتقل مفردات «التآمر والمؤامرة والمتآمرين» دائمة الجريان على ألسنة «موالاة السلطان» منهم إلى كتابات وأحاديث ليبراليين يفترض فيهم الانتصار للمعلومة الموثقة والتفكير العقلاني وقبول اختلاف الآراء.
تعيس للغاية أن يسيطر الصراخ، صراخ المؤيدين والمعارضين، على المؤسسة التشريعية التي كانت يوما مساحة جادة للعمل العام وتختزلها راهنا السيطرة الأمنية إلى سيرك متهالك تديره مجموعة من البهلوانات المملين محددي الأدوار سلفا. تعيس أن يصير الفضاء العام، بإعلامه التقليدي وشبكات التواصل الاجتماعي، مجرد منصة لإنتاج الضجيج وإطلاق اتهامات التخوين المتبادلة بين الموالاة والمعارضة والمزايدات اللانهائية. تعيس أن يصبح المنطق الوحيد للأشياء هو منطق المزايدة، مزايدة الجميع على الجميع، فالاختلاف في الرأي خيانة والخيانة بالطبع ليست وجهة نظر، وإلى مزبلة التاريخ سيذهب من يتهمون الحكم ببيع الأرض وكذلك من يختلفون مع المعارضة المدافعة عن الأرض، والمعارضون ليسوا سوى نفر من مدعي الوطنية وموالاة السلطان هم قطيع من المأجورين والسراق، وحديث المؤامرة يتمكن من اختراق كل الجنبات دون رادع من بقايا عقل أو مفردات تحضر.
تعيس للغاية أن لا يقف أحد في وجه الجنون العام، تعيس أن يجبر ضجيج اتهامات الخيانة والتآمر وادعاء الوطنية الجميع على الرقص وفقا لإيقاعاته الزاعقة. تعيس أن يكون هذا هو ما آلت إليه أحوال مصر العظيمة.

الجزء الثاني
انتهيت من كتابة الفقرات أعلاه، وأنا على متن طائرة متجهة من العاصمة الألمانية برلين إلى مدينة المال فرانكفورت. جاء مكاني بجوار سيدة أعادت إلى وجهها سنوات العمر المتقدمة أريحية تعبيرات الأطفال في سنواتهم الأولى ولم تغب عنه التجاعيد الجميلة لمن اختبرتهم الحياة مرارا.
سألتني، بعد أن توقفت عن النقر على هاتفي للكتابة بالأبجدية العربية وتمنت هي أن يعود بها الزمن إلى الوراء قليلا لكي تتعلم كيفية استخدام «كل هذه الأجهزة الحديثة»، عن خلفيتي وعملي. أجبتها، فعاجلتني بسؤال عن محتوى ما كنت أنقر. أجبتها، مقارنا الصراع بين الحكم السلطوي والمعارضة الشعبوية في مصر بالصراعات بين النازيين والفاشيين المجرمين وبين الفرق الشيوعية مدعية احتكار الحقيقة المطلقة في ألمانيا ما بين نهاية الحرب العالمية الأولى (1918) واستيلاء النازيين على الحكم (1933).
سألتني عن موقفي الشخصي، فأجبتها باقتضاب البعيد المحبط الذي بات شعوره بالإحباط والوحدة يطغى على كل ما عداه. هنا بدأت هي في الكلام، فقالت إن سني عمرها تجاوزت التسعين، وإنها تتذكر فترة ما بين الحربين العالميتين جيدا وإن والدتها ووالدها (وكانا من سكان برلين) شاركا في شبابهما بفاعلية في الحزب الشيوعي الألماني وجلسا في مناقشات أدارتها روزا لوكسمبورغ ومعها كارل ليبكنيشت وآخرون وكانا يرددان حكايات العشرينيات والثلاثينيات كثيرا.
أخبرتني أنها مازالت تتذكر اللغة القطعية التي كانت تجري على ألسنة والديها وغيرهما من الشيوعيين آنذاك، وأن تلك اللغة مثلت الفرصة الممكنة الوحيدة لمواجهة النازيين الذين كانوا يوظفون الوطنية الشوفينية والعداء للسامية والعنصرية ويدفعون المجتمع إلى المزيد من العنف اللفظي والعنف المادي بجرائمهم وانتهاكاتهم لحقوق الإنسان وتعقبهم الدموي لمعارضيهم.
قالت إن والديها، على الرغم من دفاعهما عن توجهات الشيوعيين بين الحربين وتبنيهما الكامل لها، عادا وراجعا أفكارهما في أعقاب استيلاء النازيين على الحكم وبعد كارثة الحرب العالمية الثانية وفظائعها وأدركا أن الزج بألمانيا إلى أتون العنف اللفظي والمادي ما بين الحربين كان مسؤولية مشتركة بين النازيين والشيوعيين (تورطت بعض المجموعات الشيوعية في عمليات اغتيال وعنف تحت مسمى الإرهاب الثوري) وأن النازي وإن تحمل المسؤولية المطلقة عن الحرب والدماء والدمار بين 1933 و1945 ما كان ليتمكن من الاستيلاء «السهل» على الحكم وفرض جرائمه على الجميع لو أن الشيوعيين الألمان مارسوا المقاومة الديمقراطية ولم يتورطوا في العنف، لا اللفظي منه ولا المادي. قالت إن والديها وهي وأخوها نجوا من موت الحرب وغادروا كأسرة برلين باتجاه جنوب ألمانيا الغربي (بالقرب من مدينة شتوتجارت) في أعقاب نهاية الحرب، وأن والديها انضما بعد الحرب إلى العمل الحزبي مع الاشتراكيين الديمقراطيين ومارسا السياسة في إطار يسار ديمقراطي كان جادا، وأنها انتمت أيضا إلى الاشتراكيين الديمقراطيين بعد أن أنهت دراستها الجامعية العليا كأستاذة للأدب الألماني.
توقفت فجأة عن الحديث، قائلة إنها ستتركني وحالي دون أن تفرض ذكرياتها وأفكارها علي وعلى بلدي صاحب الخبرة المختلفة. قلت لها إن باستثناء العنف المادي الذي يرتكبه في بلادي الحكم السلطوي وجماعات إرهاب وعنف تتمسح بالدين يكاد حديثها، خاصة عن الدائرة اللعينة من العنف اللفظي والعنف اللفظي المضاد وعن الفكرة الديمقراطية التي لا يلتزم بها لا الحكم ولا معارضوه، ينطبق في عمومياته وتفاصيله على مصر اليوم.
قلت لها، بعد الشكر على حديثها معي، ليت قومي يدركون حكما ومعارضة الكارثة التي ندفع مصر العظيمة باتجاهها بحديث الخيانة والتآمر ونزع الوطنية حال الخلاف. قلت لها، ليتهم يتعقلون ويراجعون قبل تحقق الكارثة وليس كما فعل والداها بعدها.
كاتب من مصر

عن كارثة لا أريدها لبلادي

عمرو حمزاوي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د. حلمي محمد القاعود:

    حسنا أن تتحدث اليوم عن ” كارثة لا أريدها لبلادي”. كان ينبغي أن تعلنها قبل أربع سنوات حين حلّ صندوق الذخيرة بديلا عن صندوق الاقتراع، وتمّ اختطاف الرئيس الشرعي المسلم قسريا ليوضع في مكان مجهول بعيدا عن الأحياء ولا يتمتع بأية حقوق حتى حقوق المجرمين الذين يدخلون السجون، ويضطر مؤخرا للإعلان عن خطر يتهدد حياته، ثم ينصّب مكانه رئيس بقوة الدبابة والقاذفة، ويبدو أنك تتصور أن هناك بقايا لما تسميه الحركة الديمقراطية، وهو تصور غريب لرجل يفترض أنه مدرس سياسة ويعرف ما يحري على أرض الواقع.. هل بقيت ديمقراطية بعد مئات الأحكام ضد الأبرياء بالإعدام والمؤبدات والسجن سنوات طوال؟ وهل بقيت آثار ديمقراطية بعد حشر أكثر من ستين ألفا من الشرفاء في السجون المكتظة، ومطاردة مئات الآلاف من الناشطين المحترمين في كل مكان؟ وهل بقيت آثار ديموقراطية والسلطة الانقلابية العسكرية تحتشد للقبض على ولد في أعماق يكتب سطورا لا تعجب الانقلابيين على الفيسبوك، بينما تعجز عن العثور على وزير داخلية سابق كان يعيش تحت الإقامة الجبرية ومطلوب لتنفيذ عقوبة جنائية، وتحكم على ولد تظاهر من أجل تيران وصنافير بسنوات مشددة، في حين تطلق سراح لصوص القمح أو من يقدمون للشعب قمحا مسموما تعف عنه الحيوانات؟
    الانقلاب العسكري الدموي الفاشي الذي شاركتَ فيه يا دكتور عمر حمزاوي من أجل ثمرة لم تذقها، هو الذي سمّى أسراه في السجون بالخوارج والمتأسلمين والخونة وجرّدهم من الوطنية وأطلق أبواقه الليلية والصحفية والإذاعية لتسبّ كل مسلم يعارض حكم الدبابة والبندقية، والانقلاب هو الذي شطب أعظم ثورة في تاريخ مصر، وأراق الدماء أنهارا في الحرس الجمهوري والمنصة ورابعة والنهضة والفتح ورمسيس وأكتوبر وناهيا ودلجا وكرداسة والبصارطة وغيرها ، وما زال يصفي المعارضين الحقيقيين داخل مساكنهم وفي الشوارع والميادين بذريعة تبادل إطلاق النار..
    مشكلة كبرى يا دكتور عمرو أن تسوي بين القاتل والضحية وأنت تعرف كثيرا من الخبايا والأسرار، وتكتفي بتسطيح الأمور، في الشجار بين المؤيدين والمعارضين حول اتهامات العمالة والخيانة، ولا تعجبك مفاهيم تحمل دلالات تراها أنت رجعية وجنسية كالعرض (شرف المرأة) لحشد التأييد الشعبي للدفاع عن «مصرية» جزيرتي تيران وصنافير (الأرض عرض) بدلا من الانفتاح على نقاش موضوعي كما تسميه حول حقائق التاريخ والجغرافيا والسيادة. ولا يقل عن ذلك تعاسة كما تظن أن تنتقل مفردات «التآمر والمؤامرة والمتآمرين» دائمة الجريان على ألسنة «موالاة السلطان» منهم إلى كتابات وأحاديث ليبراليين يفترض فيهم الانتصار للمعلومة الموثقة والتفكير العقلاني وقبول اختلاف الآراء!
    كم حجم الليبراليين في بلادنا يا دكتور؟ أزعم أنه لا يوجد ليبراليون حقيقيون، لقد كان موقف من تراهم ليبراليين مخزيا ومخجلا من سرقة إرادة الشعب واختطاف رئيسه وشطب ثورته وإحلال لغة القوة محل لغة الحوار وفيه ما يكفي لإدانة أدعياء الليبرالية وأشباههم من اليساريين والناصريين وأتباع هنري كورييل!
    لماذا أنت تعيس للغاية بسبب سيطرة الصراخ بين المؤيدين والمعارضين، بينما كنت سعيدا والمجموعات القتالية الضاربة تقتحم البيوت في جوف الليل وتروع الأطفال والنساء والآمنين لأنهم يعيشون مع مسلم معارض يرفض الانقلاب على إرادة الشعب، ويرفض حكم الدبابة ؟
    هل رأيت مؤخرا مصر العظيمة وهي تلهث وراء ولد أعرابي جهول، ولا يذكرها أحد إلا في خانة الهتّيفة للأعراب والتصديق على ما يقررونه بأوامر غيرهم؟
    لك أن تسعد في نعيمك الأوربي، وتنتقل بالطائرات، وتكتب عن الفرقاء غير الإسلامين، لأن المسلم دمه رخيص وفكره رخيص ومستقبله رخيص .. عنصرية يعني! لماذا جرجرتني للتعليق وأنا أغالب نفسي وأحاول أن أجبرها على الصمت؟

    1. يقول محمد- إلى د. حلمي محمد القاعود:

      لا فض فوك. أبدعت في الرد يا د. حلمي. ليت الحمزاوي يقرأ ردك المفحم. أجزم أنه قد فعل!
      الرجاء أن تواصل تعليقاتك و ردودك.

  2. يقول تونسي ابن الثورة:

    تحيّة رمضانيّة كريمة من أرض تونس مهد ثورات الرّبيع العربي المجيدة التي قتلها ومشى في جنازتها أناس كثر من أمثال الكاتب عمر الحمزاوي إلى الدّكتور حلمي على هذا الرّدّ المفحم .

  3. يقول عبد الخالق أبو العقل-المغرب:

    احيي الدكتور حلمي محمد القاعود على فحوى تعليقه،واتمنى مخلصا مزيدا من النضج السياسي والرقي الأخلاقي لمثقفي مصر الغالية حتى يستطيعوا التغلب على ميولاتهم الشيطانية المبخسة لكلمة الحق،والمصفقة لكلمة الباطل..الدكتور عمرو حمزاوي عارض نجاح الدكتور مرسي في الإنتخابات الرئاسية بوضوح،وبارك الإجهاز على السلطة الشرعية في بلده واغتصابها. وهاهو اليوم بتوجع لما آلت إليه مصر. فمتى نستطيع نحن العرب ان نرى الحق حقا والباطل باطلا فتشفى قلوبنا من الغيظ والضغينة

  4. يقول Hanny Hilmy Canada:

    I usually like your position on various issues. But this time I disagree with you (democratically and without accusations of treason). When part of the national soil is sold or foolishly given away despite all the evidence to the contrary in violation of the constitution, the law and vital strategic consideration, not to mention the proud history of the country and the sacrifices of its citizens (including many in my family), then any refrain from condemning and opposing this perfidious act is inexcusable under any justification. No body has the right to barter away Egypt’s territory and sovereignty regardless of the justification. If not opposed now, loud and clear, then when? Hanny Hilmy, Ph.D. University of Victoria, Canada.

  5. يقول Ahmed hatten Germany:

    والله مارايت اشرف ولا اشجع من الدكتور عمرو حمزاوي وهو من القله الشجاعه اللي أخذت موقف من 30 يونىيه وإلا ماكان حاله كده ، الاخوان مع انهم انظلموا لكن. عندهم غباء سياسي واضح اتمني يتعلمو من اخطاءهم، ويبطلو. يشمتو في اللي حتي كان ليهم موقف مشرف زي الدكتور عمرو. وأفضل حاجه للاخوان يخليهم في الدعوه. يمكن يفلحوا فيها

  6. يقول أحمد +مصر:

    يا دكتور عمرو العلمانيين والليبراليين تعمدوا اخفاء الحقيقة في الأحداث الدامية التي مرت بها البلاد وظهروا على الشاشات ليتحدثوا ويساهموا في تغييب الحقائق وطمس الوعي عند الشعب وتستطيح فكره عن أي حقائق تتحدث.
    الذي أستغرب له أنا أن يثور هؤلاء على جرز ذهبت في النهاية الى دولة عربية أخرى ولا يثوروا على شباب قتل أو ألقي في السجون أو مجاهل طرق البلدان الاخرى فرارا من البطش الامني للدولة هذه هي الخسارة الحقيقه والكارثة التي حدثت في البلد فعلا.
    أم أن العلمانين والليبراليين يرون أن الإسلاميين هم ليسوا بشر أصلا أم انهم لا يجب ان يكونوا مصريين أو أن قتلهم كذبح شاة يمكن التهاون فيه.
    تحياتي لك ولشخصك الكريم رغم اني اختلف معك الا اني احترمك بشدة

إشترك في قائمتنا البريدية