منذ فترة بدأت تستخدم في بعض الكتابات الصهيونية إشارات إلى ما تسمى «كردستان اليهودية». لن تحتاج النظر إلى الخريطة للتأكد من أن كردستان العراق تحديداً يقع ضمن المجال الحيوي للدولة اليهودية الأسطورية التي ستمتد، حسب النبوءة، بين النيل والفرات. بل إن العقيدة الصهيونية تذهب إلى ما هو أبعد بذكرها أخباراً عن دولة يهودية تاريخية كانت موجودة في وقت ما على الأراضي التي تشغلها القومية الكردية حالياً. يوضح كل ذلك أن للقوم أهدافاً أكبر بكثير من مجرد تطبيع العلاقات مع الإقليم الذي يطمح للانفصال.
رغم هذا التهديد الوجودي إلا أن العلاقة، شبه الرسمية، قد توطدت بين القيادات السياسية الكردية والصهيونية خلال العقود الأخيرة وبشكل خاص منذ حقبة التسعينات حينما ساعد الغرب الإقليم على الخروج من الظل الحكومي للسلطة في بغداد. في الواقع فقد استطاع الكيان الصهيوني أن يستفيد من حالة الرفض الإقليمي للتطلعات الكردية بإعلان دولة مستقلة ليظهر وكأنه الداعم الوحيد لهذه التطلعات في المنطقة بالتشديد على حق الشعب الكردي في تقرير مصيره وبتثمين جهوده ونضاله في سبيل ذلك، بل وبتشبيه ذلك النضال بنضال الشعب اليهودي الذي لا يريد جيرانه الاعتراف بحقوقه. (هذا هو ذات الدور الذي لعبه الكيان حين سارع لمد جسور التواصل والتعاون مع انفصاليي جنوب السودان).
سياسة البناء على المشتركات سياسة صهيونية أثبتت نجاحها وجدواها مع أكثر من طرف إقليمي، ففي ظل غياب المشاريع القومية والرايات الأممية أو العقدية لا يعود أمام الدول والكيانات المتفرقة إلا البحث عن مصالحها الضيقة المباشرة. وإذا كان الأمر عبارة عن حسابات سياسية مجردة من كل شيء سوى المصلحة فإننا سنجد الكثير مما قد يعد رؤية مشتركة بين الجانبين وما قد يصب في إطار علاقة استراتيجية مستقبلية ستؤثر بالضرورة على موازين القوى في المنطقة.
أهم المشتركات التي جعلت من الكيان يعبر بصراحة وبلا تحفظ عن دعمه لحق كردستان في الاستقلال هي ما يشكله التغول الإيراني من خطر على كل من الإقليم الطامح للاستقلال من جهة والكيان الصهيوني الذي يفضل أن يكون جاره الأقرب هو الصديق الكردي وليس إيران أو حلفاءها من جهة أخرى.
في إطار الفوضى الأخيرة التي تشهدها مدن العراق وفي ظل العنوان الهلامي للحرب على الإرهاب والتي تشارك فيها القوات الكردية تسعى كردستان المستقبل وبدعم واضح من الولايات المتحدة إلى توسيع حدودها بحيث تشمل أراضي جديدة في إطار ما يمكن أن يسمى كردستان التاريخية.
لا نحتاج لاستنتاج حقيقة أن هذا الاتجاه مدعوم بشكل أهم من الكيان الصهيوني الذي من صالحه أن تتمدد سلطة الإقليم الصديق لأبعد مدى ممكن.
هذا لا يعني طبعاً أن انخراط الأكراد في الحرب غرضه الوحيد هو توسيع رقعة النفوذ، فهذه قد تكون مجرد فائدة جانبية شجع عليها الوضع الهش للبلاد. لكن الإقليم كغيره من مناطق العراق والشام ظل مهدداً خلال الفترة الماضية بهجمات تنظيم «الدولة» ونواياه التوسعية، بل إن التهديد قد وصل عاصمته أربيل نفسها وقد كان هذا هو أحد الأسباب الرئيسية في تحرك المجتمع الدولي لإيقاف تقدم الـ»دواعش».
«الإرهاب» ومكافحته هو أحد العناوين المهمة التي تجمع سلطة الإقليم بالكيان الصهيوني الذي يرى في كل الحركات الإسلامية عدواً مفترضاً ومصدراً للإرهاب سواء في ذلك حركات المقاومة في الداخل أو تنظيمات «القاعدة» و»داعش» الإرهابية في الخارج.
القيادات الكردية الفاعلة تنحدر في معظمها من خلفيات علمانية ويسارية ولذلك فهم جزء من التحالف السري الذي عبر عنه بنيامين نتنياهو في العام 2014 حين أقر بتعاون كيانه مع عدد من الدول العربية التي سماها «المعتدلة» في مجال محاربة حركات «الإسلام السياسي» التي هي عدو مشترك.
يرى البعض أن الجائزة الكبرى تكمن في حصول الكيان على امدادات مستمرة ومستقرة من النفط وعلى سوق ناشط جديد قد يصلح كبوابة مهمة للدول العربية والآسيوية، لكنني أرى أن الجائزة الأكبر هي تحييد ركن مهم من أركان المنطقة وتحول الإقليم الذي كان جزءاً من الدولة العراقية التي طالما أقضت مضاجع المستوطنين إلى حليف وشريك في مقابل «الآخرين».
لقد شرعت عدة دول مؤثرة في فتح قنوات للتواصل مع قادة الإقليم. أهم هذه الدول هي تركيا التي لم تشأ أن تترك كردستان فريسة سهلة للكيان. كان التوازن صعباً فتركيا تبدو مجبرة على هذا الاتجاه في ظل عدم وجود خيارات أخرى وإلا فإن ظهور دولة كردية مستقلة ومجاورة يشكل ولا ريب تهديداً مباشراً للبلاد التي تخوض منذ عقود صراعاً ضد متمردين أكراد.
منع النفوذ الصهيوني المتنامي داخل الإقليم قد يكون سبباً غير مباشر أما السبب المباشر فهو التنافس الإقليمي المحتدم لكن غير الصاخب بين تركيا وإيران. نعني أنه قد يكون في استمالة الإقليم ودعمه ومحاولة التعامل معه بشكل لا يشكك في شرعية مطالبه ما يصب في مصلحة تركيا التي بدأ النفوذ الإيراني في العراق والتطورات الدرامية التي أفرزتها الحرب في العراق وسوريا تثير مخاوفها.
تحرك تركيا لمد جسور التواصل مع قيادات كردستان العراق يجب أن يقرأ في إطار رغبة تركيا في المشاركة في صياغة المستقبل وهو الإطار الذي يشمل عملية «درع الفرات» التي يبدو من أهدافها منع تحقيق دولة مستقلة للكرد، كما يشمل التوغل العسكري والاصرار على التواجد داخل الأراضي العراقية بذريعة المشاركة في حرب الإرهاب أو تدريب أهل المناطق الحدودية للدفاع عن أنفسهم.
التواجد الصهيوني ملاحظ بكثافة في المجالات التجارية والثقافية المرتبطة بكردستان ويبرز من حين لآخر ما يوضح إلى أي حد وصلت العلاقة بين الجانبين، كما حدث في التغطية الإخبارية للحرب على الموصل. ففي حين كان المراسلون الإسرائيليون يتجولون بحرية برفقة البيشمركه كانت القيادات العسكرية تبدي عدم ارتياحها للتغطية التي كانت تقوم بها القنوات العربية للأحداث. بعض هؤلاء المراسلين بمن فيهم مراسلو قنوات كردية محلية قد تم التضييق عليهم أو طردهم في الوقت الذي كان ينجز فيه إعلاميو الكيان عملهم دون مقاطعة. كانت الرسالة واضحة: الرواية التي تقدمها القنوات الصهيونية هي الأقرب إلى ما أراد المقاتلون وسلطتهم السياسية إيصاله.
لكن الحدث الأهم والأكثر استفزازاً كان ما حدث في مثل هذه الأيام من العام الماضي حين أقامت كردستان احتفالاً يهودياً علنياً حضره مسؤولون وممثلون أجانب أطلق عليه منظموه اسم «هولوكوست منسي» بقصد التذكير بمرور سبعين عاماً على ترحيل اليهود من الإقليم.
الشمعدان اليهودي والتوراة وغطاء الرأس اليهودي وغيرها من الرموز الدينية وضعت جنباً إلى جنب مع العلم الوطني الكردستاني في حين انتهزت السلطات المناسبة للتعهد بحماية حقوق اليهود وبإعادة بناء المعابد ودور التجمع والعبادة. والسؤال هنا هو: هل هناك بالفعل بقية لليهود في الإقليم؟
الثابت كما يذكر فرست مرعي في دراسته: «اليهود الجدد في كردستان العراق» هو رحيل جميع العائلات اليهودية عن الإقليم واستيطانهم في فلسطين مع وجود أعداد قليلة من النساء اللواتي تزوجن من مسلمين والذين ستحمل أسرهم الجنسية الإسرائيلية حسب المعروف من القانون المستمد من الشريعة اليهودية.
الحركة الصهيونية تحاول الاستفادة من هذه العائلات المختلطة ومن روابطها الأسرية في الإقليم للحديث عن وجود رعايا لها في كردستان وهو ما سيمنح علاقتها بالسلطة الإقليمية بعداً اجتماعياً جديداً.
هناك أطراف أخرى قد تحدد مستقبل الإقليم أهمها الولايات المتحدة التي يبدو موقفها من القضية الكردية ملتبساً حيث تتعامل مع سلطتهم السياسية وقواتهم العسكرية كورقة ضغط تستخدمها حين تشاء، كما يحدث حالياً في الاستفادة منهم كمقاتلين شرسين ضد «الإرهاب»، في حين تبدو في أحيان أخرى كأهم المعادين لفكرة الدولة المستقلة وذلك لتفضيلها التعامل مع العراق، الذي تتقاسم النفوذ عليه مع إيران، كدولة واحدة.
من الأطراف المهمة بالطبع دول الإقليم العربية التي لا يبدو حتى الآن أن لديها استراتيجية واضحة في التعامل مع القضية الكردية رغم ما لها من أهمية وتأثير. المطلوب في المرحلة المقبلة هو الخروج برؤية متوازنة لا تتجاهل حقوق وأشواق القومية الكردية وتعمل في الوقت ذاته على استعادتهم من جديد كرافد مهم من روافد الحضارة العربية والإسلامية.
د. مدى الفاتح
شكراً جزيلاً للأخ د. الفاتح على المقال التحليلي المهم. وكلما أورته من طروحات في مقالكم هي منطقية ومعقولة…
أما بالنسبة لي فلديّ ملاحظات لربما لها ثقل أستراتيجي في قصة علاقة الأكراد العراقيين ” وصهاينة ” فلسطين المحتلّة…
1) علاقة أسرائيل بأكراد العراق – ولو سرّياً – ترجع في حقيقة الأمر الى زمن الملاّ مصطفى البرزاني – والد مسعود – في العهد الملكي ثم الجمهوري الأول في العراق.
2) و بدعم و اِسناد من ” رعيان البقر” الأميريكان الذين أحتلّوا للعراق لمة 9 أعوام) أدخلوا المادة 140 في الدستور العراقي (الأفلج و المصنّع من قبل من كانوا يضمرون ويناصبوا العداء للوطن الغالي من العراقيين المغتربين من ضعاف التفوس الذين أقتاتوا و يقتاتون على معاشات و موائد المخابرات الأميريكية والأوروبية)…هذه المادة (المسمّاة المناطق المتنازع عليها) التي تعتبر بمثابة ” اللغم ” الموقوت
” لتفتيت و تقسيم ” العراق….هي أصلاً من بنات أفكار الصهاينة الأسرائيليين !!!
3) السعودية ودول الخليج التي يعوّل عليها العراق (العربي والكردي و السنّي والشيعي والمسيحي…ألخ) في دولة المواطنة المتساوية والديمقراطية وحقوق الأنسان والعدل والقانون) لا يبدو أنها مستعدّة ولا راغبة في المواجهة مع أيران أو أسرائيل…وبذلك فاِن العراق الذي عرفته أجيال القرن العشرين و حتى الحادي والعشرين سيمسي ” دويلات و مقاطعات ” لها أول و ليس لها اَخر… و لا حول ولا قوة ألا بالله العلي العظيم !!!