عندما سُئلَ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وهو يدلي بورقته في انتخابات السادس من مايو/أيار الماضي في قلم الاقتراع بحارة حريك، في الضاحية الجنوبية أجاب: «أنا صوّتُّ للعهد».
أما صهره، وزير الخارجية ورئيس التيار الوطني الحر (التيار العوني) جبران باسيل فكرّر أكثر من مرّة على مسامع الناس طيلة الموسم الانتخابي بأنّ العهد، بمعناه الفعلي والشامل، لم يبدأ بعد، وأنّ حكومة العهد الأولى الفعلية ستكون تلك التي تعقب الاستحقاق الإنتخابي. الانتخابات كانت من وجهة النظر العونية، استفتاء لـ«تمكين» بل «تفويض» بل «ظهور» العهد، والملموس الأوّل في كل هذا تكريس «ولي للعهد»، جبران باسيل. أما إذا ابتعدنا عن ملموسية هذا التكريس، ستجد «الإطناب في العهد» كما لو كان العهد مقاماً من مقامات الرّوح، لا يختزل في مؤسسات، كما لو أنّه دعوّة للتأمّل الصوفيّ.
في هذا الإطناب، العهد أتى وما زلنا ننتظره. سالف الحضور. حاصل في «الليس بعد». هو مقام للروح، لكنه مقام للوجود نفسه. عندما يصوّت الرئيس للعهد في قلم اقتراع، معنى هذا أن «الرئيس بذاته» ينتخب «الرئيس لذاته». العهد العوني يكون بهذا المعنى عين الكائن السارتري الحرّ: موجوديته لا تتضمن ماهيته، ولأجل ذلك فهو حرّ يصنع حرّيته من لاشيء.. ولأجل ذلك هو «رئيس قوي» يمكنه أن يطالب في الحكومة المقبلة بحصته الوزارية كصاحب أكبر تكتل نيابي مسيحي، وبحصة وزارية إضافية للمقام الرئاسي في ذاته.
تعامل الرئيس وتياره مع الاستحقاق الانتخابي التشريعي على أنّه استفتاء على العهد يتجلى فيه العهد نفسه. لم يخض في المقابل أي فريق الاستحقاق على أنّه استفتاء ضدّ العهد، ولو اتخذ «التململ من العهد» ضروباً ومسالك شتّى. رست الانتخابات على مجلس متطبع بأكثريته المطلقّة مع قوامية سلاح «حزب الله»، وهذا فحوى ما قصده قائد فيلق القدس في حرس الثورة الجنرال قاسم سليماني في كلامه الأخير عن البرلمان اللبناني، الذي ردّ عليه فريق العهد نفسه بنفي التبعية لإيران. جاءت الانتخابات في المقابل بمجلس هو إلى حد كبير «غير متأقلم» مع مناخ العهد، ولو كانت أشكال انعدام التأقلم (كتل بري وجنبلاط وفرنجية والقوات) من الصعب جمعها في إطار مشترك في الأمد المنظور. في المقابل، تظهر بين الفينة والفينة عوارض الاحتقان. فالسجال «حول العهد»، فكرته وحصيلته ومآله، ما زال في بداياته، وما زالت بداياته أصوات صاخبة يصعب عليها الانتظام في كلمات مفهومة.
يغيب عن كل هذا أنّ العهد في الدستور غائب. فلا ورود لهذا المصطلح في المواد الدستورية المتصلة بانتخاب الرئيس وصلاحياته وعلاقته بالسلطتين التنفيذية والتشريعية أو بعموم اللبنانيين. في النصّ الدستور مدّة الرئيس في السدّة تسمّى «ولاية» لا عهداً. يشخّص الدستور الرئيس بأنه رمز وحدة الوطن، يسهر على احترام الدستور والمحافظة على الاستقلال، لكنه لا يصيغ علاقة «عاهد ومعهود» بينه وبين الآخرين. درجت العادة على اعتبار خطاب القسم الذي يلقيه الرئيس فور أدائه يمين القسم بمثابة «صكّ العهد» هذا، لكنّ الدستور في مادته الخمسين لا يطلب من الرئيس تلاوة خطاب قسم، بل إن المادة تكتفي بتحديد صيغة ثابتة ليمين القسم لا تتبدّل من رئيس إلى آخر. صحيح أنّ المادة نفسها تتحدّث عن قبض الرئيس لـ«أزمّة الحكم» (بالشدّة على الميم) والأزمّة هنا جمع زمام، أي مقاليد الأمور، و«زمام قومه» هو صاحب الأمر فيهم، إلا أنّ هذا التوصيف لوحده لا يكفي لـ«تأصيل» مفهوم العهد الرئاسي دستورياً.
الطريف في المقابل أنّ الدستور اللبناني يستخدم كلمة «عهد» في إطار الحديث عن «عهد النيابة» في المادتين 41 و55 منه، والمعنى هنا «مدّة وكالة» النواب عن ناخبيهم. دستورياً إذاً، ثمة 128 «عهداً»، هي العهود النيابية، لكن ليس ثمّة، في النص، من «عهد رئاسي».
«العهد» وإكثار الحديث عنه في لبنان، بالإيجاب أو بالسلب، بالتثمين أو بالتبخيس، فكرة «مبهمة العلاقة» مع الدستور. فالعهد بمعنى من المعاني فكرة ملكية أكثر منها فكرة جمهورية. للرؤساء ولايات، وللملوك عهود. ويحمل المصطلح شحنة نوستالجيا لدستور ما قبل الطائف، حين كان الرئيس هو من يتولى السلطة التنفيذية «بمعاونة الوزراء»، وباستطاعته التقدم للبرلمان باقتراح القوانين، وباستطاعته الدعوة لعقود استثنائية، وله نظرياً، صيغة سهلة نسبياً لحل المجلس النيابي. مع هذا، يمكن أن يحدث «القلب الدلالي» هنا، ويبنى على أنّ الرئيس خسر من «صلاحياته التنفيذية» بعد الطائف، لكنه كسب هالة تحكيمية ومرجعية أكثر، وبالتالي هالة ملكية أكثر، تتحول إلى «عهد» كامل في حال تولاها الشخص الذي يتمتع بشرعية شعبية مزمنة. طبعاً، لم يكلّف أحد خاطره لتسويغ «عهدية العهد» على هذا النحو، بمن في ذلك فريق العهد نفسه. عندهم أنّ الرئيس القوي في غنى عن تسويغ مفهوم العهد القوي نفسه.
لا غنى في المقابل عن تفكيك مفهوم العهد. ومن السكك المتاحة الاستعانة بالفقيه الدستوري والفيلسوف السياسي الألماني المحافظ كارل شميت حين اعتبر أنّ كل المفاهيم السياسية الحديثة هي في واقع الحال مفاهيم دينية جرت علمنتها. هنا سيظهر أن «العهد» ليس إلى هذه الدرجة مفهوم ديني جرى إحياؤه حداثياً بعلمنته. إنّه مفهوم دينيّ، كتابيّ، توراتي، بامتياز. ليس «تعاقداً» بقدر ما هو «وصيّة». آليات التفاعل مع هذه الوصيّة قد تتخّذ بعض وجوه العقد، لكنها تبقى بأعمها الغالب آليات إيمانية، شهودية، انتظارية، رجائية. هو مفهوم ديني بامتياز، لم «تجر علمنته» إذا ما استعدنا كارل شميت، بقدر ما جرت إضاعة أصله وفصله، والاكتفاء منه بالمؤثّرات، وببعد محدّد: إن العهد وصية، وإنّ القائم بالعهد، رئيس الجمهورية، بهذا المعنى، هو «الدستور الحيّ» للمملكة الداودية، في مقابل «الدستور النصيّ». ثمّة وراء «العهد الرئاسي» لاهوت سياسي مضمر، مشتت، ضائع، مغفل، لكن «العهد» لا يمكن أن يعني شيئاً من دون هذا اللاهوت السياسي الذي لا يقتصر على العونيين، بل هو أقرب ما يكون إلى «مشترك» بين القوى السياسية المسيحية. فكرتها عن العهد ملكية أكثر منها جمهورية، وملكية داودية أكثر من أي شيء آخر: ملك يخرج من «الشعب» ليقارع «جالوت» ويصير «عهداً»، ويصير وجوده في هذا المقام بمثابة حفظ لمقام المسيحيين الللبنانيين في الوجود. شيء من هذا، جانب من جوانب الأساطير اللبنانية الحديثة العديدة.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة