عن مأساة «باغندا» ولامبالاة جمهوره

حجم الخط
0

كان الراوي ما يزال في بداية حياته المهنية حين نشر مقالا عن الاختفاء السريع لباغندا «الجوهرة السوداء في تاج كرة القدم التونسي». كان مقالا بكرا إذ لم يكن كاتبه الشاب يعلم أن ليس كل ما يعرف يُقال، وأن مصالح ووساطات وشؤون عليا يجب أن تؤخذ في الحسبان قبل كتابة كل ما يتعدى الروتيني والعادي. جرى الردّ على المقال سريعا من نافذين في الإعلام الرسمي والنقابي، لتطوى بذلك حكاية باغندا في الصحافة. لكن الراوي عاد إليها بعد سنوات كثيرة ليضع فيها كتابا. كانت تلك السنوات الفاصلة كافية لأن ينسى الناس ذلك البطل النادر الكفاءة الذي كان يشبَّه ببيليه أسطورة البرازيل، بل إن ذاكرة التونسيين، بحسب الكتاب- الرواية سريعا ما أسقطته منها إذ بدا بين ليلة وضحاها كأنه لم يكن. كتاب شكري المبخوت، أو روايته، أو تحقيقه، الغني بالتفاصيل والوقائع والأسماء، يتنقّل بالتدريج من حكايته الأولى عن الاختفاء إلى تأريخ تفصيلي لما تدرّجت فيه أحوال تلك اللعبة، واجتماع الوصوليين والمتنفّذين حول كعكتها حين باتت في تلك السنوات أحد مراكز النفوذ والتنازع على تجميع المال.
ما استجمعه الروائي شكري المبخوت عن تلك اللعبة وعما أحاط بها في سنوات الاضطراب تلك (1986- 1988) يضع قارئ الرواية أمام سرد مفصّل ومتداخل لتهافت الوصوليين حول تلك اللعبة التي لم يكن ممكنا لها أن تنمو وتتطوّر منطلقة من ديناميتها الخاصة. فما أحاط بها، أو بوليمتها، كثير وعديد إلى حدّ أننا، فيما نحن نصل إلى الصفحات الأخيرة من الرواية، نجد أنفسنا متسائلين عن باغندا، أين هو، ولماذا يُكتفى منه بتبنّي قضيته فيما هو كبطل للرواية يظل متواريا. كان علينا أن ننتظر تلك الصفحات الأخيرة إذن حتى نعرف ماذا حصل له وإلى أين أودى به تآمر المتآمرين عليه. في الرواية التي تحمل اسمه «باغندا»، التي كان هو ذريعة كتابتها، يظلّ غائبا ومجهولا. لم يتعدّ ما كتب عنه ذكر ما قيل وما أخفي عن مصيره، وكذلك تفاصيل عن نشأته في الحي القريب من الحي الذي نشأ فيه الراوي. لكن حضور باغندا في الرواية هو من قبيل حضور الغائب، حتى إن قرأنا عن علاقته الغرامية وسلوكه المتفلّت عما ينبغي أن يكون عليه نجم رياضي. لقد بدا مثلا أقلّ ظهورا من شخصية عماد بلخوجة الفاسد المنشئ المتحكّم باللعبة عامة والمقيم لها مؤسسات وأبنية وأنظمة، وكل ذلك على قواعد فاسدة.
حضور باغندا هو حضور الرمز إذن، أما عماد بلخوجة فحضوره حضور الفاعل صانع التحوّلات وتفاصيلها. ربما كان السبب في ذلك كامن في الطبيعة التحقيقية للكتاب حيث كان على الكاتب أن يتبع الحلقات المتتالية التي تفسّر وقائع اختفاء باغندا ثم وفاته. من هذه مثلا تحويل لعبة كرة القدم التونسية من كونها هواية إلى كونها احترافا، وإنشاء مبنى خاص لتدريب اللاعبين ولإقامتهم. ثم تنظيمها كسوق يجري فيها نزاع الفرق على ضمّ اللاعبين أو شرائهم، ثم أيضا الصراع الضاري على تبوّء رئاستها نقابيا أو رسميا، ثم تورّط السلطة السياسية بين المتنازعين عليها، وكذلك إقامة ما يشبه وكالات مراهنة لها في الأحياء يديرها تحالف عصابات.
لم يفوّت شكري المبخوت شيئا مما يتعلّق بتلك اللعبة في سنوات «ذروتها» تلك. ربما كانت روايته هذه غير مسبوقة لجهة موضوعها أولا ثم مثابرتها على الخوض في تفاصيله. ومع ذلك الحرص على جلاء حقيقة ما جرى (وصولا إلى الكشف عن مصير باغندا) كان على الكاتب أن يبذل جهدا فائضا لكي لا يغرق عمله في تلك التفاصيل، كما لكي يجري العمل هذا مجرى الرواية.
ربما كان غياب باغندا، أو تغييبه، هو ما أتاح بقاء الروائية مرافقة لسرد تلك الوقائع. كان باغندا حاضرا كأنما وراء الستارة التي تجري الأحداث أمامها. ثم، ولنضف إلى ذلك، حضور الراوي نفسه في الرواية التي، في وجه من وجوهها، بدت ناقلة لسيرته في العمل بالصحافة. وهذه تمثّل الأقنوم الثاني في الفساد الموصوف، الذي لا يقلّ فداحة عن الفساد المتصل بلعبة كرة القدم، بل ويظهر أن الفساد مستشر في أقانيم الحياة عامة حيث نقرأ في الصفحات الأخيرة ما يشبه المرثية الساخطة التي تطال كلّ شيء، بما في ذلك لا مبالاة قوم باغندا حيال كل ما يجري لهم وإبقاء ذاكرتهم خالية مما ينبغي أن يظلّ متشبّثا فيها.
إنها رواية خروج من الفساد العميم إلى عالم آخر جديد. الرواية هي بيان لتفصيل ذلك الخروج وضرورته، وقد حمل الفصل الخير من الرواية «غروب الحكاية أو التحقيق المستحيل» المرافعة التي أوصت بالمغادرة إلى بلدان أخرى، غير بعيدة على أي حال، حيث يستحيل البقاء هنا.
رواية «باغندا» لشكري المبخوت صدرت عن دار التنوير في 240 صفحة، 2016

٭ روائي لبناني

عن مأساة «باغندا» ولامبالاة جمهوره

حسن داوود

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية