بعد أشهر قليلة على انطلاقته، يدخل عهد الرئيس ميشال عون في مرحلة مطبّات هوائية جدّية لا يظهر عليها أنّها مائلة إلى الانحسار.
المطب الأهمّ يتّصل بالاستحقاق الانتخابي في بلد أجرى آخر انتخابات تشريعية عام 2009 ثم مدّد مجلسه النيابي لنفسه مرّتين، مرّة كي يعطى الوقت الكافي لإقرار قانون انتخابي جديد، ومرة لأنّه فشل في ذلك. الاستعصاء المتعلّق بإقرار قانون جديد للانتخاب استفحل في الشهور الماضية أكثر من ذي قبل، وسط الرفض القاطع من قبل الرئيس وتياره لتنظيم الاستحقاق على قاعدة القانون الانتخابي السابق، والإصرار على إدخال نظام التصويت النسبي إلى التجربة الديمقراطية اللبنانية، مع اختلاف بين رؤية الرئيس عون للنسبية، أو رؤية المسيحيين عموماً لها، غير المتحمّسة لاعتمادها على قاعدة لبنان دائرة واحدة، وبين رؤية «حزب الله» ومن يوصفون بـ»قوى المجتمع المدني». مع نهاية المدّة القانونية لدعوة وزارة الداخلية الهيئات الناخبة، تزيد الحشرة، وفي هذه الحشرة طرح وزير الخارجية جبران باسيل، صهر الرئيس ورئيس التيار العوني، مشروع قانون جديد «تجميعي» لكل ما طرح، ولا يبدو أنّه أقنع أحداً، لكنه يظهر أنّه المسودة التي سيعمل من خلالها على انتاج قانون انتخابي جديد إن قدّر لهذا القطوع أن يمرّ، أو بالأحرى إن كان على المجلس النيابي الحالي، مجلس 2009، أن يبرّر تمديداً ثالثاً له. فهذه المرة لا يمكنه أن يمدّد لنفسه كي يعطى وقتاً اضافياً لإقرار قانون انتخابي، بل كـ»مكافأة» على إقراره، ولكي يتمكّن الشعب اللبناني من «فهم» قانون هذا الانتخاب «العصري» وما بعد الحديث، والتحضّر نفسياً لهذه النقلة النوعية المزعومة!
المطب الموازي هو أنّ البلد لم يعرف موازنة عامة مقرّة في المجلس النيابي له منذ عام 2005، أي منذ انتهاء حقبة الوصاية السورية، ويسير بالتالي مالياً واقتصادياً بالصرف على القاعدة الاثنى عشرية، وهي تخريجة تشريعية منصوص عليها في قانون المحاسبة العمومية، عندما يتخلف المجلس النيابي عن اقرار الموازنة العامة، لكنها لم توضع على الإطلاق كي تعتمد اثني عشر عاماً حتى الآن، وهي تفتح الباب على الواسع لكل هدر، لأنّها تخرج موضوع المالية العامة تماماً من أي مراقبة من المؤسسة التشريعية، بالتوازي مع تآكل كل المؤسسات الدستورية أو تعطّلها.
سلسلة الرتب والرواتب لموظفي القطاع العام والضغط من قبل شرائح واسعة من هؤلاء الموظفين، تحديداً ثلاثي الضباط والقضاة والمعلمين لاقرارها، هو جانب من هذه الظاهرة، ظاهرة بلد يعيش منذ اثني عشر عاماً من دون موازنة عامة، ويمنح هذا الأمر أكثر فأكثر للمصرف المركزي ووزارة المالية استقلالية «جهازية» قائمة بذاتها، حيال منطق عمل المؤسسات الدستورية، لكنه يؤدي أكثر فأكثر إلى مشكلة مع المؤسسات المالية الدولية. لا يمكن إقرار الموازنة العامة من دون البت في أمر سلسلة الرتب والرواتب هذه العالقة أيضاً منذ سنوات طويلة، ولا يمكن إقرار هذه السلسلة من دون تأمين تمويل لها. فكان المسعى، حكومياً وبرلمانياً، هو تمرير ضرائب ساد لغط حولها. فمن سوّق لهذه الضرائب الجديدة يعتبرها «جانبية»، ولا تطال الطبقات الشعبية، في حين أنّ الرفض الشعبي لهذه الضرائب كان واضحاً، وكان فاتحة لحملات تدعو لفرض ضرائب في الإتجاه الآخر، على المصارف والشركات الكبرى، أو لتمويلها بمجالات لإيقاف الهدر في الدولة. كل هذا الوضع أدّى لتأجيل إقرار الموازنة.
الفشل الحالي في إقرار قانون انتخابي جديد، وفي إقرار موازنة عامة، قد يكون من الممكن تجاوزه بتسوية معينة في الحالتين في الفترة القريبة المقبلة. هذا إن كتبت الغلبة لاستشعار مكوّنات الحكومة الحالية، التي تضم كل الأحزاب اللبنانية الأساسية، عدا حزب الكتائب، بأنّ ستخسر سوية، بصرف النظر عن تبايناتها وخصوماتها فيما بينها، إن فشل البلد تماماً في إقرار قانون انتخابي جديد يعتمد مبرراً لتمديد «تقني» ـ بالتعبير المبتذل ـ للمجلس النيابي الحالي، أو فشل في إقرار الموازنة العامة. مكوّنات الحكومة الحالية لديها مصلحة في تجاوز القطوعين بالتي هي أحسن. لكنها ليست، كلّها، ذات مصلحة، في الحفاظ على الحدّ الأدنى من الانتظارية التفاؤلية بعهد الرئيس ميشال عون. بل أن الأمر لا يرتبط فقط بشخص عون وحيثيته، بل بفكرة استعادة الرئاسة الأولى في الدولة لموقعها ومهابتها، واستعادة المؤسسات الدستورية لشكل مقبول من انتظامها، وإلا صارت الخيبة من العهد فاتحة لمشكلة أكبر، عنوانها الأبرز الطعن باتفاق الطائف، الذي وضع الرئيس عون نفسه تحت سقفه، حين وقع الوفاق مع رئيس القوات الدكتور سمير جعجع، هذا الطعن الذي يروّج له «حزب الله» بين الفينة والفينة بدعوات مبهمة في نهاية الأمر، حول «المؤتمر التأسيسي».
وسط كل هذه التعقيدات والأزمات، يدخل تحالف عون وجعجع في فترة اختبار حقيقية. اقتراب الحسابات الانتخابية أبرزت حاجة هذا التحالف إلى سياسة توطيد أو تجسيد له انتخابية، وهذه ليست بديهية، بل دونها صعوبات مرتبطة هي الأخرى بالكيفية التي سيرسو عليها قانون الانتخاب. أيضاً بالنسبة إلى منظار عمل المؤسسات، كان تمايز أساسي للقوات عن التيار العوني، من خلال دعوتها إلى خصخصة قطاع الكهرباء في لبنان.
وبعد أن ظهر هذا التحالف في مظهر تهميشي لحزب الكتائب، نجح رئيس الكتائب الشاب، سامي الجميل، في اقتناص اللحظة. فبعد أشهر قليلة على تشكيل حكومة تضم الجميع إلا الكتائب، وبعد أن ظهرت رئيس الكتائب كطالب من وزرائه الاستقالة من الحكومة السابقة، ثم كساع للمشاركة في الحكومة الحالية رغم عدم تصويته لميشال عون في الانتخابات الرئاسية، ثم كمعارض بشكل تصاعدي صاخب ضد هذه الحكومة، فقد دخلت الكتائب في «نوبة يسارية»، على خلفية الضرائب الأخيرة، ونزلت إلى التظاهر مع جماعات «الحراك المدني» والشيوعيين، رغم أنّها لم تلعب دوراً جدياً في صناعة «الحشد» بل بقيت على طرفه.
هل ينجح سامي الجميّل في التحوّل إلى قطب قادر بالفعل على مقارعة ثنائي عون وجعجع على الساحة المسيحية؟ ليس الأمر مستحيلاً. لكن عناصره الأساسية لم تتأمن بعد. المسار الذي أخذه في مسألة الضرائب الجديدة وتمويل السلسلة أدى به إلى الاصطدام أيضاً بتيار المستقبل، بعد عام بالتمام على تمييز المستقبل ايجاباً لسامي الجميل، في أيام التوتر مع سمير جعجع. فالسؤال هو: هل للكتائب اليوم من حليف، من شريك في السياسة فيما تقوم به، وان لم يكن لديك من شبكة تحالفية سياسية في مواجهة أحلاف سياسية، فهل يصرف الأمر في الشعبوية، أو يمكن فعلاً التأسيس عليه؟
بأقل تقدير، لم يعد ممكناً «عزل» حزب الكتائب مسيحياً، كما كان الأمر مطروحاً بشكل أو بآخر قبل أشهر قليلة. بالتوازي، نهضة الكتائب كحزب لا يمكنها أن تكتفي بظاهرة تتمتع بمراس تشريعي وحقوقي كسامي الجميّل. كان أكبر حزب جماهيري في لبنان، ونهضته لا يمكن أن تقتصر على الخطاب دون «احياء» الحزب نفسه، وتجديده، وطرحه كبديل عن أحادية الإرادة في القوات، وعن الطابع العائلي الموسع في التيار العوني الحالي. حتى الآن نجح سامي الجميل في تجربة الوراثة السياسية، بأن أعطى لنفسه حيثية مميزة عن أسلافه من العائلة نفسها، كما نجح في الظهور بمظهر القادر على الاعتدال والتطرّف حسب الفترات، لكن دمقرطة حزب الكتائب بشكل جدي، كي يكون بديلاً ديمقراطياً عن القوات والعونيين، ليست محسوسة بعد، كما أنّ نقد جعجع لكيفية تحوّل الكتائب من حزب مشارك في الحكومات المتعاقبة الى ما قبل ثلاثة أشهر من تاريخه، إلى حزب «حراكي» هو أيضاً في مكانه، ويتحدّث به أناس كثر، من مختلف المشارب.
وسام سعادة