حسناً… أنا امرأة تدخل الخامسة والأربعين بكامل قلقها الوجودي، وإن حق لي القول أيضاً بكامل أنوثتها، وأبعد ما تكون عن اليأس أو ما اصطلح على تسميته بـ»سن اليأس»، في توصيف جائر لمرحلة عمرية تزهر فيها الروح الأنثى وتثمر…
الجسد في اختماره
جسد المرأة مهما تداعى، ما هو إلا جذع لأنوثة غائرة الجذور، لا يزيدها العمر إلا عمقاً ورسوخاً…
غالباً ما يتكور الجسد الأربعيني وتستدير الانحناءات الأنثوية، فيما هو خداع العقل لما تراه العين من كيلوغرامات فائضة، أو ربما هو كشف لكنوز «الأنوثة المستترة» التي أنصفتها اللغة العربية بحق، عندما أطلقت على المرأة الممتلئة لقب «المرأة المكتنزة»…
وكأن الجسد الأربعيني يتمرد على مقاييس الموضة وصورة المرأة العشرينية النحيلة، معلناً أن الأنوثة الطبيعية تقاوم الريجيم والتأطير، وترسم خطوطها الأنثوية على هواها…
حسناً… هي ربما زيادة في الوزن والتخلص منها يزداد صعوبة مع العمر، ولكن لنعترف بأننا بعد الأربعين نتذوق كل تفاصيل الحياة بمتعة أكثر، وإن كان بآثار جانبية يصعب إخفاؤها. ومن متع السنين أيضاً أنها لا تراكم الأوزان فقط، بل خبرات الحياة وتجاربها التي تجعل الجسد ينضج كما الحصرم عندما يختمر ويصبح نبيذاً معتقاً…
المؤسف أن العرب وحدهم ينسبون النضج لليأس ويطلقون على مرحلة انقطاع الطمث «سن اليأس»، وفي هذا تسطيح لمرحلة شديدة الجمال والتعقيد في آن، وفيها اختصار لآمال المرأة وأحلامها بمهمة إنجاب الأطفال فقط. فواقع الحال يثبت اليوم أن المرأة في هذه المرحلة، غالباً ما تعيش فترة سلام جسدي وروحي، وتمتلك وقتاً أكثر لفهم تفاصيل روحها وللعناية بجسدها، بعد أن تكون قد تجاوزت مراحل التأسيس للحياة العاطفية والأسرية والمهنية، وبعد أن يكون الجسد قد اكتملت أنوثته وتخمرت فتنته.
والمرأة الأربعينية خصوصاً تكون في قمة الأنوثة وتوهجها، فالهرمونات الأنثوية تكون في حالة هدنة وهدوء قبل الاشتعال مجدداً في الخمسين، والجسد مازال يحتفظ بجاذبيته وسحره، والروح في سلام وتصالح بعد أن كبر الأبناء ولم يعودوا يحتاجون رعاية الأمومة المستمرة، وحتى في المجال المهني تكون المرأة قد تجاوزت المراحل التأسيسية الأولى والأصعب في العمل والوظيفة.
الأسئلة الأربعينية
المرأة في منتصف العمر، تشعر بأنها تقف على قمة جبل خلفها يمتد شبابها وأمامها المستقبل المجهول.. ولا تتوقف عن طرح الأسئلة من قبيل:
هل فلحت أرض خصبة لبذوري أم كنت أفلح الهواء من حولي؟
هل هي الهاوية التي تنتظرني خلف القمة أم مازال للسهل بقية؟
وما معنى الهاوية، إن هي إلا اسم نمنحه للأماكن التي طالما أرعبنا عبورها؟
وهل من جسور تحتمل ثقل أحلامنا لنعبر فوقها؟
هل آن الأوان لقطع الحبال والتحليق عالياً في منطاد الأحلام، أم علينا أن نثقله بحجج العقل والمنطق ونتركه يهبط من جديد؟
كثيرة هي الأسئلة الوجودية التي نطرحها على أنفسنا في منتصف العمر، وكثيرة هي المشاريع المؤجلة والأحلام المركونة التي تطفو فجأة فوق السطح، وكأننا في مواجهة مع الذات بلا مماطلة، وكأن الحياة تمنحنا الفرصة الأخيرة مهددة: الآن هي فرصتكنّ الأخيرة…اغتنمنها أو لتنسونها إلى الأبد!
سطوة الزمن
مازال إذن في العمر متسعٌ للفرص الأخيرة… ومازال للجسد قوته وللروح جنونها ليتشاركا في إنجاز المهمات المستعجلة… فبينما لا تعترف الروح بالعمر ولا تصاب بقصر النظر، يبدأ الجسد أولى اعترافاته بسطوة الزمن.. فالعين لم تعد تستطيع تمييز الأحرف الصغيرة، ولابد من التسليم أخيراً بارتداء النظارة الطبية، التي لا مانع أبداً في أن تكون فاقعة اللون بما يرضي ذائقة الروح الشابة… ولرقص الأقدام الحافية فوق الشطآن آثار غير تلك التي تتركها فوق الرمال، آثار تبدأ أحياناً بوخزة وتنتهي بالتواء مفصلي، فالمفاصل لم تعد تمتلك مرونة الجسد في العشرين وإن امتلكت مهارته وتجاوزتها أحياناً… أما التجاعيد فهي الإعلان الصريح بسطوة الزمن علينا، ولكننا في المرحلة الوسطية بين زمنين، وما زلنا نملك التباساً غريباً …التباساً يظهر أحياناً في الوجه الحائر بين تجاعيد الأم وحبوب الابنة، فعلى يمين ثنية الذقن قد تنبت حبة شباب، كإعلان مضاد أيضاً أن هرمون الشباب مازال يعمل ويقاوم، وإن بآثاره السلبية…
أما الخط الصغير على طرف العين اليسرى فهو يسلك الطريق الذي يقود حتماً لوجه الجدة المتغضن في الثمانين، خط يذكر أيضاً بأن الفرح حفر عميقاً هناك. وبين آثار الفرح وآثار الزمن يرسم الخط طريقه بخفر، من دون وعدٍ منا بأننا سنبقى نراقبه بحياد، أو سنحقنه بالسم العصري «البوتكس» المقاوم لآثار الزمن والفرح معاً.
الالتباس
العقد الرابع هو عقد الالتباسات العاطفية أيضاً، فبعد الأربعين محتم علينا النوم باكراً والاستيقاظ مستعجلاً، فندخل الواقعية مرغمين ولا تعود قلوبنا ترتجف للقصص العاطفية، ولكن يحدث أحياناً أن نبكي كالمراهقين عند الاستماع لأغنية رومانسية أو عند قراءة رسالة حب قديمة…
كما يحدث أن تتحول صالات السينما المعتمة من مكان سري للقاء أيام المراهقة، إلى مكان سري للبكاء بهدوء، فالبكاء في العتمة متعة نكتسبها بالعمر والخبرة أيضاَ…
وكثيراً ما نتلبس بأنفسنا مع أبنائنا في حوار يشبه حوارات آبائنا معنا، أو نكتشف متعة الصباحات الطويلة الصامتة أمام فنجان القهوة الصباحي كالصباحات الحزينة لأمهاتنا، في إثباتاتٍ مؤكدة على أننا نتقدم بالعمر من مبدأ: كلما كبرت شابهت أبويك وما ظلمت…
كما يحدث أن نرتدي آخر الصرعات حسب تصورنا، لنكتشف من خلال أبنائنا المراهقين أن موضة اليوم لا تعترف بتقليعاتنا التي مر عليها الزمن وغبر…
حسناً بعض الجنون الأربعيني ليس فناً ولا جهالة، بل هو ذرة الملح التي تحفظ القلوب من تعفن الشيخوخة. وفي النهاية عندما نبدأ بالاعتياد على تقدم العمر بنا، ما دمنا لم نبلغ بعد أرذله، تأتي جملة من قبيل: في عمرك هذا و… أو تمر عبارة في إعلان تلفزيوني من قبيل «جيل الشباب»، متبوعة بجملة إيضاحية مثل « ما دون الأربعين»… عندها نشعر حقاً بأننا لم نعد ننتمي لجيل الشباب هذا، ولن تخدعنا المرايا فهي لا تتبع نظام الفوتوشوب، سنبتسم وستظهر أولى التجاعيد التي سننسبها بمكر للتجاعيد الانفعالية لا للتجاعيد الزمنية، وسنلمس روحنا بثقة قائلين:
«عمر» …كم لنا من العمر يا إلهي، ونحن أرواح شابة لا تهرم!
هامش: هذه المقالة مهداة لجميع النساء الأربعينيات وما فوق، واللواتي علمنني أن الأنوثة لا تشيخ ابداً، من خلالهن وعنهن ولهن كتبت اعترافاتي الأربعينية هذه!
كاتبة سورية
آية الأتاسي
شكرا سدة اية الاتاسي على هذه المقالة الرائعة والقلم العجيب في وصف تفاصيل المراة الاربعينية مقالتك مقالة كاتبة رشييقة القلم والفكر جميلة الوصف غائرة في ملامح فرح الاربعين ونحت معالم السنين كم شغفت بما كتبت هههه سلمت يدك سيدة اية بلغت سيدتي واحد واربعون عاما في يناير 2016 لا اخفيك انني لا زلت والحمد لله احتفظ برشاقتي برحمة الله واحب ذكر ذلك ربما لانني كنت كثيرة الحركة لحد مزعج واميل الى الرياضات العنيفة كاسباحة والكاراتيه والرماية والجري لمسافات طويلة والطيران الشراعي والغطس بعدها اصبت وانا في السابعة والثلاثين برصاص اسرائل في قدمي سبب ذلك لي عرجا وااضحا (تفجر الكاحل الايمن ) المهم انني لم اتزوج عمدا لانني كنت اعمل في القماومة واريد الاشتباك ولا يعقل ان اترك ابنائي او تحين المعركة وقد ابتلعت تللك الكرة كما كنت اتوهم السيدات الحوامل وانا طفلة اصدقك القول ان العمل الامني والحرية المطلقة نعمة راائعة لا توصف لكن يشوبها ما يشوبها من الشوق للاهل وربما احيانا الشعور بالوحدة ما ان اغير القانون واجرب شيئا جديدا حتى اكتشف سيدة اياة انني امراة لم يتطور في شيء لا زالت في اعماقي تللك الكاسرة المشاغبة العنيدة والحساسة المرهفة حتى الموت والاقتحامية حتى الانتحار ولكن اظن الاصابة اجبرتني على ان امسك القلم تتمنى لي مسؤولة التعليق الشفاء اولا لاها حتما طيبة القلب هههه والسبب الاخر لو لم اكن مصابة لارتاحت من طول عباراتي وجملي ومشاغباتي على الصحيفة الاجمل التي فيها كاتبات جميلات رائعات في الوصف مثل اية الاتاسي لكني لا اعرف هل انا متخلفة نفسيا عن النضج لانني لم اختلط ببيئة الزوجية ولم اصبح اما مع انني كنت اتحمل مسؤولية الاطفال والشباب في العائلة لا اعرف سيدة غادة ما زلت كما انا وان كنت صرت اميل الى القلم وهي اللمهمة التي كنت امقتها قبل الاصابة المراة هي المراة هي الرقة والصراحة والحساسية والعنفوان وهي المقاتلة والكاتبة والمحبة والمعرضة وهي الكاتبة الرائعة اية الاتاسي
اعترافات جميلة وأسلوب رائع و اعتقد أن كثيرا من هذا مشترك مع ما يشعر به غالبية الرجال لكننا أي الرجال عادة أكثر بعدا عن النقد الاجتماعي والنظرة النقدية التي يكيلها المجتمع للمرأة وخاصة قي سنين العمر المتقدمة ربما لأن المرأة في هذا السن تصبح أكثر قدرة على الوقوف أمام الرجل وعلى جميع الأحوال أنا في الخمسينات واستغرب لماذا يشعر الناس بتقدم العمر وفيما اعتقد كثيرا من هذه المشاعر “العمرية” يفرضها الرأي الاجتماعي وليس الحالة البيولوجية فالإنسان جسام وروح وعندما يعمل كلاهما بسلامة لا يهم ما تبقى اللهم سوى أن الإنسان عليه أنل لا ينكر التغيير فهو أمر طبيعي في الحياة