«عيد الاستقلال»

حجم الخط
1

أحيا الفلسطينيون يوم الأحد الماضي مرور 68 عاما على نكبتهم بفعاليات وطرق مبتكرة، لإبقاء القضية حية وكي لا تصبح نسيا منسيا.
وقبلها بثلاثة أيام احتفل الإسرائيليون بذكرى قيام كيانهم وفق التقييم العبري، فوق جماجم أطفال ونساء وشيوخ فلسطين، وعلى حساب تشريد واقتلاع شعب بأكمله من أرضه وارتكاب مجازر ضد من آثروا البقاء على الهجرة.
الفلسطينيون يطلقون على هذا اليوم «يوم النكبة».. والإسرائيليون يطلقون عليه «يوم الاستقلال» في تزوير لا لبس فيه للحقائق والتاريخ، وهو ما تبدع فيه إسرائيل.
الإسرائيليون يختارون ما يحلو لهم من تسميات، فلا رادع يردعهم، ولا حسيب ولا رقيب على ما يفعلون، ناهيك عما يقولون، بل ويجدون الآذان الصاغية لهذا التزوير، على الأقل في الوقت الراهن، جراء الأوضاع المزرية فلسطينيا وعربيا وحتى إسلاميا، ولن ندخل في تفاصيل هذه الأوضاع البائسة، فهي بادية للعيان.
بيد أنهم، رغم صلفهم وغرورهم، يتسترون وراء هذه التسميات، وهم في قرارة أنفسهم يعرفون أن هذا الكيان لم يأت عبر استقلال عن أحد، بل عبر نهر من الدماء، ويواصل البقاء بالأساليب والوسائل نفسها التي ستفقد مفعولها في المستقبل غير البعيد.
وهم رغم مرور عشرات العقود على ما يسمونه «يوم استقلالهم»، ورغم ما يملكون من أسلحة «الدمار الشامل» في ترسانتهم، التي جربت جميعها باستثناء السلاح النووي، ضد الشعب الفلسطيني، على مدار هذه العقود، لاسيما بعد اتفاق أوسلو المشؤوم، الذي حرر دولة الاحتلال من جميع مسؤولياتها إزاء شعب محتل، رغم كل ذلك إلا أنهم عاجزون عن تحقيق الأمن والأمان والاستقرار.. والأهم أنهم عاجزون عن كسر صمود الشعب الفلسطيني الذي يتمسك بأرضه بعد تجربة النكبة المريرة.
فهذا الشعب يذكرهم صباحا ومساء بعجزهم ويشعرهم بفشلهم الذريع في إكمال مخططاتهم. وهو باق كالشوكة في الخاصرة، أو الأصح كالسكين في الحلق، حتى يرحل الاحتلال وينال الاستقلال وتقام الدولة الفلسطينية.
والحديث عن النكبة ليس موضوع هذ المقال، بل هو مصطلح «يوم الاستقلال». فالغرابة ليس فيما تقوله اسرائيل، بل في أن يردد هذا المصطلح فلسطينيون وعرب، سواء بوعي أو بدون وعي، أو زلة لسان، وأيا كانت المبررات فهو خطأ جسيم، بل وعيب، ويجب الحرص والدقة في انتقاء المصطلحات حتى لا نقع في هذا الفخ، ويصبح هذا المصطلح على كل لسان.
اختيار الاسرائيليين لهذا المصطلح لم يكن عبثا ولم يأت من فراغ، إنه اختيار مدروس بعناية ودقة لمدلولاته السياسية التحريفية التشويهية، فبه يسعون لتحريف التاريخ وتزييفه، بل وطمسه للتأكيد على أنهم شعب كان له دولة وتاريخ وجذور لا مجرد عصابات تمكنت عبر القتل والمجازر والتشريد من إقامة دولة لقيطة، لا أصل ولا فصل لها ولا تاريخ ولا حضارة.. دولة عصابات جاءت إلى فلسطين من شتى الأصقاع ومن مشارق الأرض ومغاربها، لفرض كيان استعماري احتلالي عنصري على غرار النظام العنصري السابق في جنوب أفريقيا.. ومن قبلها راعيتها الولايات المتحدة التي قامت على انقاض الهنود الحمر. وبهذا المصطلح يريدون، انطلاقا من المقولة «الزمن كفيل بالنسيان»، أن تنسى شعوب العالم وفي مقدمتها أصحاب القضية ماضيهم، وإقناعهم بأنهم ينتمون لدولة كانت قائمة وخضعت كباقي دول المنطقة، للاستعمار.
إنهم يريدون إعطاء الانطباع بأنهم مثلهم مثل شعوب هذه المنطقة خاضوا حرب تحرير طويلة ضد هذا الاستعمار، قبل أن ينالوا الاستقلال.. تصوروا هذا الكذب والافتراء والتزوير للتاريخ.. على عينك يا تاجر.. يريدون اقناع العالم بأنهم حاربوا بريطانيا التي منحتهم الأرض وفتحت أمامهم ابواب الهجرة إلى فلسطين وسلحتهم وحمتهم وحافظت عليهم، وسهرت على رعايتهم حتى اشتد ساعدهم وحانت لحظة انفصال الطفل عن أمه.
إنهم يريدون التخلص من جلباب العصابات الذي لا تزال ترتديه اسرائيل حتى الآن، يريدون أن يصبحوا دولة كباقي الدول التي كانت مستعمرة و»ناضلت شعوبها حتى تحررت من نير الاستعمار ونالت استقلالها»، وليست مجرد دولة قامت بالقتل والذبح وتحافظ على بقائها عبر الوسائل نفسها، وأهل غزة وشهداؤها وجرحاها شاهد حي.
وخوفي حقيقة ليس على من عاصر هذه العقود، بل على الأجيال الصاعدة في العالم العربي التي يقدم إليها التاريخ مشوها، في زمن السلام الوهم والربيع العربي الذي تحاول اسرائيل استغلاله لتغيير صورتها النمطية، من خلال تقديم المساعدات الانسانية لبعض ضحايا القتال، سواء في سوريا او غيرها، والخبرات القتالية لبعض الاطراف خاصة بعض الفصائل الكردية لتأجيج إضافة للطائفية، النعرات الإثنية والعرقية. وكذلك تزويد السلاح لكل الأطراف لإبقاء الصراع مشتعلا بعيدا عنها، بل وكسب تعاطف هذه الاطراف ونسيان تاريخها الاسود على شاكلة «عفى الله عما مضى.. وها هي إسرائيل ليست بالسوء الذي يحاولون اقناعنا به». وبدأنا بالفعل نسمع مثل هذه الاصوات تتردد هنا وهناك رغم قِلِّتها.
الاسرائيليون لحوحون ولا يكلون ولا يملون حتى ينالوا ما يريدون ويلجأون لإسلوب «الزن على الذان (الاذن)» وفق المثل القائل «التكرار يعلم الحمار» وفي بعض الأحيان تنجح في تحقيق المراد وغسيل الامخاخ.
وما يسمى «عيد الاستقلال» ليس إلا واحدا من المصطلحات التي تطلع إسرائيل علينا بها بين الحين والاخر، وتحاول ترسيخها واقناع العالم بها والقبول فيها والتعامل معها كأمر واقع ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
«ليس ذا صلة» ظلوا «يزنون» بهذه العبارة حتى رددها من بعدهم زعماء غربيون وبعض منا، ضد الرئيس الراحل ياسر عرفات وراح يرددها من بعدهم قادة غربيون، تمهيدا لتنفيذ قرار تصفيته واغتياله تدريجيا، كي تبدو الوفاة طبيعية وبأقل الخسائر السياسية الإعلامية الممكنة. اغتيل عرفات ولم يحرك العالم ساكنا، وأخذ بالرواية الاسرائيلية. وبالمناسبة فإن لجنة التحقيق الفلسطينية لا تزال تحقق بعد أحد عشر عاما ونصف العام.
والشيء بالشيء يذكر فقد كنت آخر صحافي يجري حوارا مع الرئيس عرفات قبل أسبوعين من «مرضه المفاجئ» في 14 اكتوبر 2004. وقد كان في كامل صحته وعافيته خلال الحوار، كما كان حاد الذهن، رغم أن الحوار أجري في ساعات الليل المتأخرة كما اعتدت على ذلك في السنوات الماضية.

دولة يهودية..

مصطلح الدولة اليهودية لم يكن مطروحا خلال مفاوضات ما يسمى عملية السلام، وبرز إلى السطح بعد أن ضمنت اسرائيل الاعتراف العربي والفلسطيني بوجودها. وراح تردده إلى أن صار قادة دول العالم، لاسيما الغربي كالببغاوات يرددونه من ورائها ويطالبون الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية الدولة، رغم ما له من انعكاسات سياسية وربما جغرافية على فلسطينيي الداخل.

حق أسرائيل في الدفاع عن النفس

ظل الاسرائيليون يرددون هذه العبارة حتى اصبحت، لازمة في تصــــريحات قادة دول العالم حتى مسؤولي الامم المتحدة.. فلا يتجرأ احـــدهم على انتقاد أفعال وجرائم وفظــــائع جيش الاحتلال، سواء في قطاع غزة او الضـــفة الغربيــــة، إلا ويسبقها بعبارة حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها، منطق أعوج.. دولة الاحتلال هي صاحبة الحق في الدفاع عن النفس في مواجهة الشعب الخاضع لاحتلالها.

الإرهاب

رغم أن القوانين الدولية تحفظ للشعب المحتل الحق في استخدام كل الوسائل بما فيها العسكرية للتخلص من الاحتلال وتصفه بالثائر والمناضل والمجاهد، الا في فلسطين.. حيث تنقلب القوانين.. فالفلسطيني إرهابي عدواني حتى يثبت العكس، ودولة الاحتلال هي الضحية.

جبل الهيكل وحائط المبكى:

المسجد الأقصى يصبح جبل الهيكل المزعوم وحائط البراق، أو الحائط الغربي للأقصى يشار اليها بحائط المبكى. وحي المغاربة في البلدة القديمة من القدس يصبح حارة اليهود.. أما التل الجنوبي الشرقي لقبة الصخرة في سلوان فيطلقون عليه مدينة الملك داوود.. وأصبحت هذه التعابير تستخدم لجهل البعض بمعانيها السياسية.
اسماء المستوطنات والبؤر الاستيطانية اليهودية المصطنعة تحل محل الاسماء الاصلية مثل مفرق (مستوطنة) عتصيون جنوب بيت لحم وبيت ايل (منطقة مخيم الجلزون) شمال رام الله وقبر رحيل (مسجد بلال بن رباح) شمال بيت لحم.. وغيرها وغيرها.
وأخيرا.. إسرائيل تراهن في سياساتها على أن الكبار من الفلسطينيين يموتون والصغار ينسون.. ولكن لا الكبار ماتوا قبل أن يسلموا الراية.. ولا الأطفال نسوا.. والدليل أن المسيرة مستمرة وبقيادة جيل اوسلو.. والاحتلال إلى زوال والدولة والاستقلال مقبلان لا محال.. شاء من شاء وأبى من أبى وتآمر من تآمر، بعد أن ولى زمن الهجرة والتهجير، وجاء زمن العودة… إنه منطق التاريخ.. وما ضاع حق وراءه مطالب.

٭ كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

«عيد الاستقلال»

علي الصالح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خليل ابورزق:

    و نحن ايضا هانت علينا انفسنا و بدأنا باستعمال عبارات التنازل عن الحق بدون مقابل و بدون داع اصلا، ابتداء ب “ازالة اثار العدوان” بمعني نسيان القضية الفلسطينية الاصلية. ثم استعمال اسم “اسرائيل” بدلا من “فلسطين المغتصبة”. ثم استخدام تعبير “مستعمرات” و “مستوطنات” بدلا من “مغتصبات”. ثم استعمال تعبير “الارض مقابل السلام”. ثم تداول “حق اسرائيل في الامن”. ثم “حل الدولتين”. ثم “امكانية “تعريف اللاجئين”.ثم “القدس الشرقية”….و لا ادري ما هو سر هذا التهافت و بلا طائل. و الكل يعرف ان القضية الاساسية هي وجود اسرائيل ذاته و ليست حدودها او سياساتها. و ان هذا الوجود مرتبط اصلا بمصلحة غربية لا يمكن ان تستمر الى الابد. وان الاسرائيليين اكثر المؤمنين بان اسرائيل الى زوال لاني نبت غير طبيعي ضد الطبيعة في محيط غريب معاد.

إشترك في قائمتنا البريدية