«شكوتُ إلى صديقي الطبيب النفسي من هاجس سيطر عليّ. قلت: أعتقد أنني مصاب بالهايبرثيمسيا، وهي كما تصنفها القواميس والمراجع الطبية حالة نادرة يبلغ عدد المصابين بها عشرين شخصًا فقط، تجعل المريض يتذكّر كل تفصيل من تفاصيل حياته الدقيقة» (الرواية)
كثيرون ممن سكن دمشق أو مرّ بها ستمرضهم هذه الأوراق المبعثرة التي جمعها الشاعر والروائي السوري إبراهيم الجبين تحت عنوان «عين الشرق»، وعنوان آخر رديف (هايبرثيميسيا 21)، لما تحملهُ من شحنة الهذيان المتعلق بمدينة الياسمين العصيّة على النسيان في نهر التاريخ ماضيًا وحاضرًا. كان يمكن للجبين أن يكتب رواية تاريخية ذات بداية ونهاية، أو حتى ملحمة شعرية يسرد فيها وقائع أقدم عاصمة مأهولة حتى الآن، لكنه اختار هذا الشكل المبتكر من نثر القصاصات وإعادة بثها، في ما يشبه اليوميات والاعترافات والمخطوطات الغابرة، التي تطفو على سطح المخيلة مرارًا، لتحكي قصة المدينة وشخوصها وأحداثها. صدرت الرواية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بغلاف ليوسف عبدلكي ــ أحد شخوصها ــ وجاءت في 360 صفحة.
فوضى الوعي السردي
لا شك في أن إبراهيم الجبين بذل جهدًا شاقًا بغيةَ الإمساك بمادته الشاسعة والمترامية الأطراف، التي لا تنحصر ضمن دمشق من حيثُ المكان، حيثُ تمتد إلى القامشلي التي قَدِم منها، مرورًا بدير الزور ثم حلب وحمص ودرعا وجبلة والسلمية وعامودا وبقية المدن السورية، وصولًا إلى دورتموند الألمانية، حيث وصل حاليًا، كما لا تقف عند فترة زمنية بعينها، فتذهب تارة إلى الرومان وإمبراطورها «يوليان» الذي أطلق على دمشق هذا الاسم: «عين الشرق»، وتعود تارة ثانية إلى الأمير عبد القادر الجزائري وهو يدافع عن «شام شريف» في مواجهة الفرنسيين الغرباء من جهة، وأهلها المتشددين ذات بُرهة حالكة ضد المسيحيين من جهة أخرى، وتعرّج تارة ثالثة إلى الشيخ محيي الدين بن عربي، حين يفترش الجبين صحن جامعه الشهير على صدر جبل قاسيون، متأملًا النجوم العابرة: «كان يعج بالأشكال، زنوج وترك وبخاريون، كلهم يستظلّون بظلّ الشيخ، جرّبت أن أطلب من الشيخ، لكنه لم يساعد، حتى جاءت لحظة عرفتُ فيها أنه لن يتركني بعدها». ربما تخطر ببال القارئ رواية همنغواي «باريس الوليمة المتنقلة» من حيث عرضها لشخصيات حقيقية، أو ربما يحضر طيف الواقعية السحرية لدى ماركيز، لاسيما المزج بين الأزمنة، أو تسري نفحة من تيار الوعي السردي الحداثي، من جهة الغوص في العوالم الداخلية لأبطال الرواية ولغتها ذات المستويات العديدة، لكن الأهم من هذا وذاك أن كل تلك الفوضى العارمة التي تعمّد الجبين زجّها في روايته، كان مقصودًا لذاته، وجزءًا من تكنيك السرد القائم على الكولاج (فن اللصق) ومهاراته.
حصار مدينة الثقافة
تلتقط الرواية مشاهد مألوفة من الحياة الدمشقية، وسرعان ما تتماهى في سيرورتها اليومية بتلقائية الحياة ذاتها بدون عناء: «أنزلُ الدرجات الثماني والتسعين، وأعبر الرصيف العاصف بالطلاب والطالبات، إلى ضفة الجامعة، أقرأ كل عناوين الكتب في بسطات الحلبوني، وأتفقد لحاء شجرة الكينا العملاقة على منعطف الجسر..». يمسي السرد وهو يستدعي تلك المشاهد إلى الذاكرة نوعًا من النحيب، فدمشقُ جريحةٌ اليوم، ومقطعةُ الأوصال، وأبوابها السبعة مفتوحة على حرب من كل اتجاه.. مدينة الثقافة والفن والتعايش تشرف على الانفجار في كل آن جرّاء الحصار، وما تقوله الرواية طوال صفحاتها الكثيرة المليئة بالتفاصيل والجزئيات: إن هذا القدر الرهيب من المواجهة بين الجمال والقبح، بين الرهافة والصلافة، بين اللطف والعنف، تكرّر ويتكرّر عبر العصور، التاريخ لا يعيد نفسه فحسب، بل يتفنّن في إنتاج ذاته بأسماء وأقنعة ومجريات جديدة. يستثمر الجبين مهنته صحافيا، ولغته شاعرا، وعاطفته عاشقا إلى درجة التولّه، في إعادة بناء «عين الشرق» من منظوره الخاص، وهنا مكمن الخطورة، إذ لا يمكن لراوٍ واحد، أو حتى مجموعة رواة، كتابة موسوعة دمشق المعاصرة، ولأن الكاتب أدرك منذ البداية استحالة الإلمام بكل الزوايا من أجل استكمال بناء الرواية/المدينة، بتعقيداتها وتعددياتها، فقد قرّر أن يكون أحد أبطالها ضمن سلسلة طويلة من المقيمين والعابرين لأزقة المدينة وبيوتها وأرصفتها ومكتباتها ومحاكمها وغرفها السرية والمعلنة.
حكايا العابرين
سيحدّثنا الجبين عن الطبقة المثقفة وفسادها، الأثرياء الجُدد وفضائحهم، أجهزة المخابرات وفظائعها، الديكتاتور المحبوس على سرير العزلة ومحاولته الانتحار. عن الفنان التراثي الشعبي ناجي عبيد، أيقونة سوق المهن اليدوية وسط دمشق، والشاعر والمخرج علي سفر الذي حاول كتابة دمشق تسعينيات القرن الماضي في «بلاغة المكان»، وتاليًا بعد الزلزال في العشرية الدموية الثانية للألف الثالثة «يوميات ميكانيكية»، والمحامي هائل اليوسفي صاحب «حكم العدالة» البرنامج الإذاعي الشهير، ثم المفكر البعثي الماركسي ياسين الحافظ، والتاجر ناظم الصاياتي وريث رئاسة المحفل الماسوني .. أسماء وأسماء كثيرة تدخل في ملكوت السرد وحكاياه: العراقي مظفر النواب والفلسطيني مصطفى الحلاج والموريتاني محمد البخاري، الجاسوس الإسرائيلي كوهين والألماني النازي برونر والمستشرقة الإيطالية دوناتيلا ديلارتي والمؤرخ البديري الحلاق والملك فيصل الأول والزعيم الوطني عبد الرحمن الشهبندر والمهندسون المعماريون الثلاثة الذين تناوبوا على محاولة إعادة رسم خريطة المدينة: الفرنسي إيكوشار والياباني بانشويا والأمريكي سنان، هذا الأخير الذي راح يستلهم أسطورة المعماري العثماني سنان، باني التكية السليمانية في القرن السادس عشر الميلادي، عبر مشروعه الهندسي المستحدث ــ ذي الكتل الإسمنتية ــ لساحتي الأمويين والعباسيين.. كل واحد من هؤلاء يلعب دورًا ما في دمشق المدينة/الرواية، ويمضي. ويحتل خال إبراهيم الجبين الناقد والمترجم صبحي حديدي مساحة فارهة من فضاء السرد واشتباكاته، ردًا للجميل وأثره، ولا ينكر الكاتب ذلك الأثر حتى في ما يخص غيره من الشخصيات، بل يتخذ منه تقنية إضافية تبطل مفعول التناص، ويمنح علي أحمد سعيد مساحة مماثلة لمساحة خاله، ليميط اللثام أخيرًا عن تلك القصيدة التي امتدح بها الشاعر الناشئ الرئيس شكري القوتلي، فشكّلت منعطفًا في حياته، ولطالما ذكرها (أدونيس) في مناسبات عديدة دون أن يكشفها للقرّاء، وكان يكفي الجبين ذلك الكشف بدون الاسترسال في سرد تفاصيل الشاعر الإشكالي المعروفة، ومن الشخصيات التي يدين لها الكاتب بتكوينه الإبداعي، حسب تأكيده أكثر من مرّة، الكردي سليم بركات شعرًا ونثرًا. ولا أدري كيف نسي أو تجاهل الجبين الروائي العربي عبد الرحمن منيف، أحد وأبرز عابري دمشق في الثمانينيات والتسعينيات، صاحب «مدن الملح»، وكتابه المشابه للرواية التي نحن بصددها من حيث الموضوع: «سيرة مدينة: عمّان في الأربعينيات»؟
الشخصيات والأقنعة
لعبة الأسماء الحقيقية والمستعارة تستمر حتى نقطة الخاتمة في الرواية، وبوسع القارئ الذي خبر دمشق، ووسطها الثقافي، أن يعرف جُلّ الشخصيات المرمّزة: جمال وآصف ووديع، رشيد ومعسرْتي، ستناي وعُلا، بيد أن الكاتب يخون «وصايا» ميلان كونديرا ويتلاعب بها كما يتلاعب بالأقنعة، هذا في التفاصيل التي يكمن فيها الشيطان، كما يقال، لكن حين يتعلق الأمر بدمشق فهو يرسمها بصورة معشوقة تدعى «سلمى»، أو العكس هو الصحيح: «سلمى تشبه (الغنّاجة) الدمشقية التي تنبت في أحواض البيوت، تميل على الجدران الحجرية البيضاء، تغلق ورقها إن لامستها الأيدي، وتعود لتتفتح ما إن تشعر بالأمان». ولعل اللافت في «عين الشرق» استعانة إبراهيم الجبين بقرينه اليهودي «إخاد»، مستعيرًا تلك الشخصية من روايته السابقة «يوميات يهودي من دمشق»، لكنه يذهب هذه المرة إلى عصر أنأى، ويتنقل بين العصور، فيحاول الدفاع عن الشيخ المكبّل في قلعة دمشق (ابن تيمية)، عبر محاورته حول أفكاره وفتاواه التي ذهبت بعيدًا عن مراميها زمانًا ومكانًا، وصولًا إلى جماعة «حراس الأرض» العسكرية الباطنية، واضعًا كل ذلك في مقاطع متجاورة، كما تتجاور الأديان والأعراق والطوائف في لوحة فسيفسائية مشغولة بعناية بالغة، اسمها: دمشق.
تنتهي الرواية فجأة، حيث جدار مدرسة في درعا جنوب سورية، ومجموعة أطفال يكتبون شعارات الثورة: «بدون أن ينسى كل منهم التوقيع باسمه الصريح.. مع تحيات، بشير وعيسى ونايف أبا زيد». من الواضح أن اللحظة الراهنة قد ضغطت باتجاه هذه الخاتمة، ذات المدلول السياسي المباشر، رغم انفتاح السرد على سياقات تاريخية وفلسفية أشمل، فالرواية كُتبِتْ أو اختمرتْ على الأقل على مراحل متباعدة، وسيرة دمشق أو «عين الشرق» لا تبدأ من حدث بعينه، ولا تنتهي بحدث أيضًا، مهما كانت رمزيته، لأن المأساة السورية – ودمشق قطب الرحى فيها – فاقت كل المدارس الرمزية في الإبداع وتخطتها بمراحل، كما يعلم إبراهيم الجبين بالطبع، والذي استهلّ الرواية بمشهد إحراق لؤي كيالي لوحاته، ليبدأ من جديد، لكنه وللمفارقة احترق بها لاحقًا.
٭ كاتب سوري
عبد الله الحامدي