أثناء الأيام الماضية تردد اسم لينين كثيرا في بريطانيا، ولكن ليس للسبب المتوقع، أي حلول الذكرى المئوية للثورة الروسية التي كان لينين زعيمها والتي لولاه لربما ما كان البلاشفة ليتمكنوا من الاستحواذ عليها. ليس هذا هو السبب وإنما سبب تردد اسم لينين هو أن أحد أعضاء مجلس العموم من حزب المحافظين قد وجه رسالة إلى رؤساء الجامعات البريطانية يطلب أسماء الأساتذة والمحاضرين الذين يخصصون، في إطار مادة العلاقات الدولية أو الدراسات الأوروبية، دروسا ومحاضرات لموضوع البركسيت. كما يطلب تفاصيل عن المحاضرات وروابطها على الانترنت. فماذا كان رد فعل الجامعيين؟ أعرب الكثيرون عن استغرابهم لمجرد إمكانية وقوع مثل هذه الحادثة في بريطانيا وأعلنوا استنكارهم لهذه «الأساليب اللينينية». ولعل رئيس جامعة أوكسفورد اللورد كريس باتن، الذي كان آخر حاكم بريطاني لولاية هونغ كونغ قبل أن تعود إلى السيادة الصينية عام 1997،قد كان أفصحهم وألذعهم عندما قال لهيئة الإذاعة البريطانية إن هذه الرسالة التي بعثها البرلماني كريس تاتون-هاريس، المعروف بتعصبه لقضية البركسيت، إلى رؤساء الجامعات إنما هي «نموذج خارق للعادة عن سلوك سخيف ومستنكر، بل إنها ضرب من اللينينية العدوانية الحمقاء».
الأمر اللافت للنظر هو أن معظم المعلقين من الجامعيين والساسة والصحافيين قد استخدموا الوصف التهجيني ذاته لاستنكار هذا المسلك: إنه مسلك لينيني. حتى لكأنهم قد اتفقوا على هذا الوصم مسبقا! ولعل الاستثناء الوحيد هو ذلك الذي تمثل في استخدام وصف الماكارثية. وهذا أمر مفهوم، باعتبار أن الصورة الشائعة عن لينين في الغرب هي أنه المنظّر الأول لنزعة التحكم والمراقبة والسيطرة التوتاليتارية (أن تكون الدولة عينا على الجميع)، وما تفرع عنها من أجهزة بوليس الفكر والثقافة (أي إجهاض التفكير قبل أن يصل إلى مستوى التعبير). وكان الفيلسوف السلوفيني المعروف سلافوي جيجيك قد حاول قبل أعوام، في كتاب بعنوان «الثورة على الأبواب»، تصحيح هذه الصورة والمجادلة بأن لينين مفكر مرهف الحس التاريخي بحكم تشبعه بالمنطق الهيغلي. ولكن لا يبدو أن جيجيك قد أقنع أحدا.
عدّ الجامعيون رسالة عضو مجلس العموم اعتداء على الحريات الأكاديمية، حيث اقتبس نائب رئيس جامعة وورستر ديفيد غرين قولة شهيرة لتشرشل، فأعلن: إننا لن نستسلم أبدا، بل سنتصدى لسلطة الاستبداد! ولكن مؤيدي البركسيت أعربوا عن مخاوفهم من تعرض الطلاب لعمليات غسيل دماغ من قبل الأساتذة والمحاضرين الذين بينت استطلاعات الرأي العام أن أكثر من ثمانين بالمائة منهم صوتوا لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي. ولكن جواب اللورد باتن على هذه المسألة كان مفحما، حيث تساءل عن معنى التحيّز وغسيل الدماغ في ضوء الحقيقة الاجتماعية التي كشفها الاستفتاء، وهي أن الأغلبية الساحقة من مؤيدي البقاء في الاتحاد الأوروبي هم أولا من الشباب، وثانيا من الشرائح الاجتماعية التي حظيت بالدراسة الجامعية، أما مؤيدو البركسيت فإن أغلبيتهم الساحقة من المتقدمين في السن ومن الشرائح التي لا يتجاوز تعليمها مستوى الدراسة الثانوية.
وقد اضطر وزير الدولة للشؤون الجامعية جو جونسون إلى القول إنه ما كان ينبغي لهاتون-هاريس أن يبعث هذه الرسالة، مع أنه فعل ذلك بصفته الشخصية وليس نيابة عن الحكومة، وأضاف أن بواعث الرجل أكاديمية بحتة، حيث أن من الوارد أن تؤدي أبحاثه إلى تأليف كتاب عن البركسيت! معقول… لمن عنده الاستعداد للسماع، كما يقول التعبير الفرنسي. أما الواقع فهو أن هنالك نوعا من الهستيريا لدى النخبة البركسيتية، بعد أن بينت الاستطلاعات أن كثيرا ممن صوتوا لصالح البركسيت قد أصبحوا نادمين، وأن ثلاثة أرباع الرأي العام تعتبر أن أداء الحكومة البريطانية في مفاوضات البركسيت رديء، وأن بعض القوى السياسية، وفي طليعتها الحزب الديمقراطي الليبرالي، بدأت تعد العدة لحشد التأييد لعقد استفتاء ثان لأنها موقنة أن نتيجته ستكون لصالح البقاء ضمن الاتحاد. وليس أدل على ضلال البركسيتيين من أن ثلاثة من أعرق الساسة المحافظين التاتشريين، هم مايكل هازلتاين وكنث كلارك وكريس باتن، مؤمنون جميعا بأن مستقبل بريطانيا داخل الاتحاد أفضل من مستقبلها خارجه، أيا كان المعيار.
٭ كاتب تونسي
مالك التريكي