عليّ اولا ان اعترف بأنني أستعير تعبير الصمت المدوي البليغ من الراحل غسان كنفاني، الذي اغتاله الموساد الاسرائيلي في الثامن من تموز/يوليو 1972 بتفجير سيارته مع ابنة شقيقته في بيروت. كان عمره لا يتجاوز الـ 36 عاما، وقد اثرى حياتنا بدرر ادبية من قصص قصيرة وروايات ودراسات ومقالات. لم يحمل سلاحا سوى القلم، كان هذا كافيا لاثارة الرعب في الكيان الصهيوني، واعتبرت اسرائيل هذا السلاح محرّما على الفلسطينيين، فقامت باغتيال القلم وصاحبه. لعله ليس من المصادفة ان تبدأ عملية «الجرف الصامد» الاسرائيلية قبل يوم من ذكرى رحيل كنفاني ضد غزة، التي تسلحت بأهلها الصامدين وصواريخها العابرة للمدن الاسرائيلية (الفلسطينية) من شمالها الى جنوبها. اسرائيل التي ضاقت ذرعا بالقلم قبل اكثر من اربعة عقود تجد نفسها في مواجهة الصواريخ الان، محاولة اغتيالها، من دون جدوى.
اسرائيل تعلن انها تقصف اهدافا في غزة، هذه الاهداف يفترض انها منصات وبطاريات الصواريخ، ولكن تبين ان هذه الاهداف، لخيبة اسرائيل، لم تكن سوى بيوت ومسجد ودار للمعاقين. بعد ستة ايام من امتلاء سماء غزة بطائرات الـ «اف 16» والطائرات من غير طيار، كالذباب، ما زالت الصواريخ تنطلق من غزة باتجاه تل ابيب والقدس وبئر السبع وعسقلان.. في تحد واضح لاسرائيل وقبتها الحديدية المنشغلة بمحاولة اعتراض الصواريخ المنطلقة في كافة الاتجاهات. وفي تحد من المقاومة الفلسطينية، تعلن انها ستقصف اسرائيل في وقت معين، التاسعة من مساء السبت الثاني عشر من تموز/ يوليو، ومكان معين، تل ابيب، وبطراز معين، جعبري 80، واسرائيل تعجز عن منع انطلاقها، رغم كل معلوماتها الاستخباراتية والتجسسية في فشل واضح من قبلها، وليس لها الا ان تدعو مواطنيها الى الفرار الى الملاجئ كالجرذان المذعورة. هذه القبة الحديدية، الهدية من الولايات المتحدة، قد تعترض هذه الصواريخ، ولكنها لا تمنح الاسرائيليين الأمان الكامل، لان نسبة نجاحها في الاعتراض لن تكون ابدا كاملة. لقد استطاعت هذه الصواريخ شلّ الحياة الاسرائيلية، والنيل من الاقتصاد، وارباك القرار السياسي من جدوى هذه العملية ومن الخطوات القادمة.
اسرائيل لوّحت باجتياح برّي سيكون وبالا عليها اذ سيكلّفها خسائر بشرية، وسيكون صعبا جدا من ناحية عملية، اذ كيف ستدخل الدبابات ازقة المخيمات الضيّقة، عدا عن اكتظاظها بالمقاومين. يبدو انها تتراجع عن هذا الخيار، لاسيما بعد فشل العملية الجوية في منع صواريخ المقاومين نحو اهدافها. اسرائيل الان تلوح بوقف اطلاق النار من جانبها، في اعتراف واضح بالفشل، واحلال معادلة الهدوء مقابل الهدوء. المقاومة هذه المرة في عملية «العصف المأكول» تضع شروطها، رفع الحصار واطلاق سراح الاسرى الذين أُسروا مجددا بعد تحريرهم في صفقة شاليط. الولايات المتحدة عرضت وساطتها لوقف اطلاق النار بين اسرائيل وغزة. الغريب في الامر ان امريكا تريد ان تتوسط مع حماس التي تعتبرها حركة ارهابية، في اعتراف واضح بوجودها وفعاليتها ومشروعية وجودها! والا فلماذا لا تدعو اسرائيل الى الاستمرار في حربها ضد «الارهاب» من دون هوادة؟ لا بد ان حسابات الممكن والربح والخسارة تفرض نفسها على ارض الواقع الذي من المستحيل تجاهله.
الشوارع العربية تخلو من المظاهرات العارمة ضد هذه الحرب، الا في مظاهرة امام السفارة الاسرائيلية في عمان «نجح» الامن في منعها من اقتحام السفارة وفرّقها واعتقل ناشطيها. ومظاهرات محدودة في مصر من المطالبين بعودة الشرعية. اما الغائب الاكبر فهو احزاب اليسار المصري، ومن ضمنها الاحزاب القومية والناصرية، التي صّدعت روؤسنا بشعارات رنانة وتنظير وفلسفة لا طائل من ورائها، وربما ان الحقيقة الموجعة ان هذه الاحزاب هي ظواهر صوتية لا تتمتع بقواعد شعبية واسعة، وربما ان التعاطف المصري الواسع مع الفلسطينيين في الحروب السابقة كان في مجمله من الاسلاميين المقموعين الان، ومن الغالبية المصرية غير المنتمية حزبيا (المشغولة الان بلقمة عيشها بعد غلاء الاسعار وتفاديا لقمع العسكر) لاي جانب وليس لها علاقة باليسار المصري الذي يتصدر المنابر من دون ان يوازي هذا وجود قوي على الارض.
غير ان هذا الصمت المدوي يبقى اشرف من ان تفتح الافواه بادانة شعب غزة وتحريضه ضد المقاومة المنزرعة فيه، كما يحدث من اعلام الانقلاب والعسكر ومن يدور في فلكهم في مصر. مصر الانقلاب تشارك فعليا، لا مجازا، في العدوان على غزة باغلاقها لمعبر رفح، رئة القطاع، ومنع المصابين من الانتقال لمصر للعلاج، مع شح الامكانات الطبية في القطاع المحاصر منذ سنين. مصر العربية يفترض بها ان تمد القطاع بالغذاء والدواء، وحتى السلاح، لا ان تشارك في حصار شعب بني هاشم. الفرق ان قريشا صحا ضميرها بعد ثلاث سنوات من هذا الحصار الجائر، اما مصر (الدولة لا الشعب) فلا يزال ضميرها، ان وجد، في سبات عميق منذ ثماني سنوات، وقديما قيل، قل خيرا او فاصمت.
الى اعلام وابواق الانقلاب في مصر: الصمت اشرف مما تتوقعون
٭ كاتب فلسطيني
د. خليل قطاطو
تصحيح ، الجملة الاخيرة تقرأ : الصمت اشرف مما تنعقون
تحقق لليسار والقوميين كل ماكانوا يتونونه فهم بين اثنين اما ان يقبضوا المقود او الطوفان…