غـــربــة

حجم الخط
6

الغربة هي حين لا تجد شخصا تعانقه حين تكون وحيدا… يبدو لي هذا التعريف كافيا لنعرف مدى اغترابنا ونحن بين أهلنا وأقاربنا ومعارفنا.
الغربة ليست أن تسافر من بلد إلى بلد، وتجد في هذا الأخير الحضن الدافئ الذي لم تجده في وطنك. فقد تكون سوداني الهوية ولكن بلدك الحقيقي كندا، قد تكون مغربيا وبلدك الحقيقي أمريكا، قد تكون عراقيا وبلدك الحقيقي السويد…لا خيانة حين نجد الوطن غير الذي لفظنا، مثلما تلفظ الأرحام أطفالا تحتويهم الشوارع والسجون.
مفهوم الغربة الحقيقي سيعيد بكل تأكيد ترتيب أمور كثيرة في أذهاننا، من بينها مفهوم الأمومة والأبوة، والانتماء والهوية والوطن وغيرها من مفاهيم أخرى، كنا نظن أنها من الثوابت سابقا.
الغربة التي تجلدك وأنت تقف أمام أمك التي لا تعرف أن تفتح أحضانها أمامك وتحتويك، هي الأقسى، تلك الغربة التي تجعلك تشعر بأنك خارج أسوار أمومتها، بعيدا تماما عن حدود عالمها، تتوسلها بصمت أن تكون أمك، أُمًّا حقيقية، لم يلفظك رحمها لتتحوّل إلى سبب من أسباب تعاستها، ولكنها تظل مثل قطعة حجر، تشتمك وهي تطعمك وتهتم بك كما لو كانت سيزيف وأنت الحجر.
الغربة التي تذبحك هي غربتك أمام والدك، وهو يذكّرك بين لحظة وأخرى أنه يصرف عليك، أن عمره ضاع بسببك، أنه أهدر أجمل سنوات حياته وهو يكد لأجل أن يطعمك ويصرف عليك، لا كلمة أخرى لدعمك، لا ضمة لصدره، لا حديث بينكما مثل أحاديث الأصدقاء.. لا حميمية بينك وبينه، وكأنّه موظف عُيِّن من جهة ما لتهتم بك.. تبكي في أعماقك ربما وأنت تبحث عن الأب فيه، فلا تجده.
فما أقسى غربتك وأنت ضائع بين شخصين أنجباك بدون حب. تشعر بالوحدة وكأنّك مُصَنّع، مثل قطعة سقطت من عربة توزيع البضائع بالغلط أمام أولئك الأشخاص…
تراهما وتتمنى أشياء مقيتة لهما، تنام وتحلم بحياة أفضل، مع أنّك تعرف جيدا ألا دفء خارج فراشك، فالمشهد الكامل حولك تسوده القسوة والاستخفاف بك ككائن بشري، فقد يرحمك البعض لكن الأغلبية في مجتمعاتنا المتعبة تأبه كثيرا للأشياء الفرعية وتنسى جوهر الأساسيات.
مفهوم الغربة يتّسع حين تمشي في الشارع وتشعر بالخوف من لص متربص بك، من رصاصة طائشة، من مجنون مفلوت في الشوارع بعصاه، من أي شخص قد يؤذيك هكذا من دون سبب… أنت في بلد لا تشعر فيه بالأمان؟ فلماذا يجب أن تسميه وطنك؟ وتتشبث به؟ هل لأن شاعرا من القرون الغابرة قال «بلادي وإن جارت عليّ عزيزة…؟».
وما شأننا اليوم بحكاية الشريف قتادة أبوعزيز؟ التي جعلته يقول قصيدته الشهيرة بمطلعها الأشهر في القرن السادس بعد الهجرة؟ تراه سيقول القصيدة نفسها لو عاش في عصرنا، تنزل عليه الصواريخ من كل صوب ليل نهار، ثم يُهجّر، ثم تختطف زوجته وبناته ويباع بعضهن في سوق نخاسة جديد، وبعضهن يغتصب ويرمى أمام ناظريه؟ تراه سيقول «وأهلي وإن جاروا عليّ كرامُ؟».
في شعرنا العربي ستجد الكثير من فن الاستعراض، والرّشوة الكلامية، الأشياء التي لن تجدها أبدا في الحكمة التي يزخر بها الأدب في الغرب. إميل زولا يقول «المنفى لا شيء، فالمعاناة الحقيقية هي حين تعيش مضطهدا في بلادك، مكمم الفم أمام انتصار الاستبداد والظلم». تلك التضحيات التي نتباهى بها أحيانا لأننا ننتمي لوطن يتمادى في كسرنا، وأهل يتمادون في قهرنا، وسلبنا أحلامنا، هل هي السلوك الصح لجيل يحلم بالتغيير وبثورة كبرى تبلغ حد قلع رؤساء من عروشهم وحكومات من قممها العاجية؟
بالطبع لا، فلا تغيير قد يأتينا من هدم قمة الهرم، سوى في تشويه شكله…
تلك الغربة التي نشعر بها بين من نحبهم هي الحلقة المفقودة في هرم التغيير. تلك الغربة هي صمّام يجب فتحه، وإخراج التراكمات التي في قلوبنا للهواء والشمس…
إن لم نكسر تلك الغربة التي تدمرنا يوما من الدّاخل بين أحبتنا، فلا أمل في أي تغيير آخر مهما كان بسيطا، بالتالي لا داعي إن فشلنا في هذه المهمة أن نحلم بالتغييرات الكبرى.
الغربة هي حين تجرف الدموع كل جبروتك الوهمي وتنهار أمام ظلم موظف صغير لك في وطنك. فجأة تشعر بأنك بحاجة لأن تختفي، أو ترمي بنفسك في البحر، أو تنتحر وتنسف الموظف وزملاءه ومديره والمبنى بما حمل… حين يسكنك هذا الغضب، وتشعر بأنك في المكان الخطأ والزمان الخطأ فأنت حتما تطفح بالشعور بالغربة، وكل ما عليك فعله هو أولا أن تتنفّس بعمق حتى يهدأ غضبك، وتجلس مع نفسك لتفكر في حلول سلمية تجاه نفسك أولا… وإن كنت ترى أن الأمر قد فات لتتغير عائلتك وتغيير من حولك، فلا تأسف على شيء، إذ يمكنك تغيير نفسك، والتخطيط بهدوء لتخرج من دائرة الاغتراب التي تدمرك شيئا فشيئا. عليك أن تشطب من حياتك كل الأشخاص السلبيين الذين يتقمصون دور «الواعظ» الذي يعرف كل شيء ويمارسون هوايتهم عليك.
على مسؤوليتي، إن كانت العائلة ستقاطعك للأبد إن نجحتَ عكس ما يتوقعون، فأول نجاح ستحققه سيجعلهم يتحوّلون، ويرتدون أقنعة جديدة بألوان جميلة وأفواه تبتسم…
فقط على الشخص أن يغامر، ويصنع عالمه، من دون أن يرمي نفسه في البحر أو يصب الغاز السائل على جسده ويشعل فيه النار… من دون أن يثور ويكسر ويخبط نفسه في الأرض، من دون أن يتخبط في مكانه مثل شخص لدغته أفعى…
عليه فقط أن يجمع هدوءه ويفكر كيف يكسر قوقعة اغترابه بالطريقة الصّح ويخرج ويختار من سيؤثث حياته الجديدة بأشخاص إيجابيين، وأفكار إيجابية، وأحلام وردية أيضا…
كله قابل للبناء، بدءا باتخاذ القرار بالخروج من بيت الإسكيمو الذي حبسنا فيه أنفسنا إلى الامتلاء بعبق الحياة.
لماذا أقول كل هذا الكلام؟
لأن البعض يغالي في صنع سجون الآخرين، حتى أصبح بعضهم مجرما حقيقيا بمقالاته وفتاواه وبرامجه التلفزيونية. وأصبح المتلقي المحاط بكوارث من كل نوع يركض كالمجنون بحثا عن باب خلاص، لكن القضبان تلاحقه، والجلاّدون حوله يجلدونه من دون هوادة.
وليتني أجد بعد نشري المقال مشاركات إيجابية، لأشخاص كسروا بيت الجليد، وخرجوا من ذلك السجن الوهمي الذي جنّد الأشرار أنفسهم لجعله منفى حقيقيا لأبنائنا جيلا بعد جيلا، وهم في عقر أوطانهم وبين عائلاتهم وجيرانهم وأصدقائهم ومواطنيهم…
هناك حكمة لطالما أحببتها وأحب أن أتقاسمها معكم تقول «طالما أنك تشعر بالامتعاض من نفسك، ولست راضيا عليها، فهذا يعني أن الوقت لم يفت لتتغير».
وللحديث بقية إن شاء الله

شاعرة وإعلامية من البحرين

بروين حبيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبدالله القرني ـ السعودية:

    ترددت كثيرا ان اعلق او اسبح في سماء رحبة لا اجد جناحين يساعداني على الطيران ، خفت من الوقوع ، ومن الاصتدام باجسام صلبة قد تودي بحياتي، لان ما تعنية كلمة الغربة ، من صدا مدوي داخل النفوس البشرية ، وصراع بين النفس والحياة وبين المحيط الدي يضمنا ، ففي الماضي القريب كانت الغربة الاغتراب عن الاهل والوطن ، والاصدقاء ، والاحبااب ، وكان المغترب يكره الغربة ، وينوح منها ، ودموعه تورم عينية ، وتحرق وجهه ، تسود الدنيا في عينية ، اما الان فاصبحت الغربة المنفى لكل فرد منا يريد الهروب ممن حوله ، لان الكل اصبح غريبا عن بعض ، غسلت الحياة العصرية العصارة الادمية التي فينا ، من محبة وعشق ودفء ، فالغربة الان هي الام والاب والاخ والصديق ، ولكن علينا ان نعود من سفرنا وغربتنا لواقعنا الحقيقي ، وتصفى النفوس ، وتعود كمعدن ثمين، وقبل كل هدا العودة للوازع الديني والقران الكريم الدي هو شفاء لكل شيء وتختفي غربتنا ونعود لصحتنا وحبنا لبعض ونصج قريبين من بعض ونطرد الاحساس بالغربة ولن تعود ، وتصبح ايامنا الفة وعطر وعود

  2. يقول سلمى:

    لا يهم مكانك في هذا العالم و لا يهم رأي البشر و قسوة قلوبهم أو سوء فهمهم. هناك بقعة تتلاشى عندها الغربة ويختفي الضياع و الشعور بالعزلة ؛ عندها يلتقي الإنسان بمن يعرفه أكثر من نفسه ؛ بمن تسع رحمته عرض السموات و الأرض؛ بمن يمن عليك عندما تصيب و تخطئ و لا ينتظر منك إلا أن تشكر لنفسك و تصلح من شأنها لأجل سعادتك و راحتك؛ من يمد يده لك و يبسطها ليلا و نهارا و إن قطع الناس عنك أيديهم و تجمدت قلوبهم- تلك البقعة هي التي تضع عندها رأسك على سجادة صلاتك. إن أصلحنا نياتنا و أصلحنا ما بيننا و بين الله فلا شئ بعد ذلك يهم. مع الشكر الجزيل على المقال الذي أعتقد أنه يمس حياة الكثيرين.

  3. يقول Ahmad ismaeil. Holland:

    يقول المفكر الراحل ادوارد سعيد; ان الانسان الذي يجد وطنه حلواً هو انسان لطيف.أما ذلك الانسان الذي يعتبر كل ارض كأرضه فهو انسان قوي بالفعل.لكن الانسان الكامل هو ذلك الذي يكون العالم كله بالنسبة اليه بلداَ غريباَ.و لذلك قال ايضاً شاعر العرب الكبير المتنبي قال انا غريب في هذا العالم،ولجبران خليل جبران قصيدة شعر يقول فيها انا غريب في هذا العالم.

  4. يقول أفانين كبة . مونتريال ، كندا:

    مقال رائع يستحق القراءة عدة مرات والتعمق فيه لانه يتكلم عن واقع مؤلم فهذا هو فعلا حال الملايين من العرب المتغربين خارج أوطانهم أو داخلها ، ففي كلاهما قساوة الغربة ومرارتها كما تفضلت الكاتبة بتحليلها الدقيق لمرض العصر . أحد أسبابها أن الحياة المادية أوجدت عالم خُرافي مزخرف بالالوان يتزاحم اليه البشر، جعلتهم ينسون أنفسهم وذاتهم وتاركين عوائلهم وأحباءهم لأنهم ممن يؤمنون بأن مقياس النجاح في الحياة هي مقدار ما يجنيه من أموال وشئ طبيعي سينتقل هذا الولع بالمادة الى أبناءهم وينشأ جيل جديد بارد عاطفيا كل همه ألحصاد المالي.

  5. يقول صبري يوسف ـ ستوكهولم، السويد:

    الشاعرة والإعلاميّة البديعة بروين حبيب

    مقالك جميل للغاية، وعميق جدَّاً، وأشتغل كثيراً عبر نصوصي وكتاباتي ومقالاتي حول هذا الأمر، الغربة ! أحياناً يجد المرء نفسه غريباً عن ذاته، ولا يفهم ذاته ولا يعرف ما تتطلبه ذاته، فيتوه في خضمِّ الكثير من سخافات الحياة، معتقداً أنها جوهر الحياة، وإذ به يكتشفها بأنّها مجموعة ترَّهات!

    أشتغل ضمن ما أشتغل في مجال التّشكيل، إضافة للكتابات الأدبية، شعر، قصة، نص أدبي، مقال، حوار، دراسات تحليلية نقدية!!! وفي التشكيل يتمحور لوني حول البهاء والجّمال، وأنحاز كلِّياً إلى ترجمة مشاعري الفرحيّة والحبية العشقية والسلام المتلألئ في داخلي وأقدّم لوحاتي المتمحورة والمنبعثة من فضاءات الحب الفرح السلام، وأقدمها في عيد الحب من كل عام! إذ أنّني أعتبر ضرورة البحث عن ثقافة الفرح والحب والسَّلام، ويرتكز في سياق هذه المفاهيم العميقة الجمال والحياة برمتها! ولكن للأسف الشّديد أرى أن الكثير من توجّهات البشر في الكون تدور في سخافات الحروب والصراعات والتفاهات والوقاحات الدولية والإقليمية والكونية والعبور في الدرك الأسفل من اللاأخلاق في العلاقات بين البشر والدول والقارات، حيث أصبح جل تركيز الكثير من البشر على الإقتصاد والاستغلال والحروب والعقم في العلاقات، وضمرت العلاقات الإنسانية والحب والفرح والسلام بين البشر، مما يجعل المرء يشعر أنّه مغترب وهو في عقر داره بين أحضان أمّه وأبيه، والسبب ليس على أمّه وأبيه وغربة أمه وأبيه وأخيه وأخته بل السبب كل السبب هو لأن الكثير الكثير من علاقات الكون قد تخرّمت وتصدّعت وتهشّمت وتراجعت قيم الخير والفضيلة والأخلاق والحب والفرح والسّلام بسبب طغيان معايير سخيفة أخرى هي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان على كافة المستويات ايتداءاً من الأسرة في بعض الأحيان ومروراً بالحي والمدينة ىوالدولة والقارة والقارات والكون، وكل هذا ناجم عن ضمور ترويح ثقافة السلام والوئام بيمن البشر وعدم التركيز على قيم الخير والعدالة والفرح بين البشر، وهذا ما دعاني أن أؤسِّس مجلّة السّلام وأصدرها من ستوكهولم منذ عام 2013، وهي مجلّة سنويّة الكترونيّة!

    أحييك أيّتها الشّاعرة الجّميلة، وأشكرك على كل ما تقدِّمينه عبر برنامجك نلتقي مع بروين حبيب!

    أتواصل من كيانك الجميل عبر برنامجكِ دائماً، ألا تطنُّ أذنك وروحك وكيانك أنني أقدّم لك عميق مودّتي وإمتناني كلَّما أحضر برنامجك الجّميل، أم أنّك تائهة في خضم متاهات الحياة، ممَّا خفّف عندك حبق ذبذبات التَّواصل الرُّوحي؟!

    أنتِ جميلة الرُّوح والفكر والثقافة والقصيدة والنّص والمقال!

    أراك عل فرح ومحبّة وسلام ووئام دائم مع ذاتك ومع الحياة!

    صبري يوسف
    أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم

  6. يقول ياسمينة:

    فعلا سيدتي “فعلى الخريطة كلّنا أغراب”
    كلّ ما في تربيتنا يسعى لقصّ أجنحة اختلافنا وتميّزنا، كلّ من حولنا يجرّوننا إلى النمط الذي نهربه كمرضٍ معدٍ.. كلّ العمر كان مقاومة لأبواقهم المتفقة على أنّنا حالمون وكلّ مانريد وهم الوهم..
    لكن مع الوقت تتبدى الحقيقة إذ ينجلي أنّهم لا يريدون أن ينكشف خوفهم ووهنهم من مواجهة القديم وماوضعه غيرنا لعيش الحياة..
    مع الوقت تقول عيونهم :كنت دائما صعبت المراس وثائرة..
    في هذا الإعتراف عزاء لكلّ الألم الذي نجاهد لنكون ونتحقق
    دمت

إشترك في قائمتنا البريدية