الرباط ـ «القدس العربي»: كيف يبتعد الكاتب عن نفسه وينأى عنها وعن كلماته؟ هل يعتبر الابتعاد عن الشعر هروبا من الذات؟
حينما يرسم الكاتب الألماني الحائز جائزة نوبل للأداب ويوغل في الرسم، ويغيب في رواياته وفي شخوصه، يجد نفسه قد تاه عن كلماته.. فلابد له من العودة إلى الشعر. العودة إلى رواية «الطبل الصفيح» فهذه الأنشطة تبعده عن نفسه وعن روحه. فالشعر والنثر…توأمان يفترقان كجنسين أدبيين لكنهما دائما جنبا إلى جنب.
خلال سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.. كان على الشاعر أن يلبس نظارات ليكتب قصيدة ما.. في ظل هذه القصيدة قال غونتر غراس، كل شيء رائع وأكثر دقة فيها شوائبها. وعلى مر السنين أدرك عملية الشيخوخة التي تصيب.. وانهاك الذات.. ووجوب دفع الجسد إلى ورشة الإصلاح.
منذ شبابه كان واضحا في اختيارته ولم يكن تحت تأثير هيدجر، بل كان عاشقا لألبير كامو. أنصت بشدة لمقولة هذا الكاتب الفرنسي «الشمس التي تحكم طفولتي، حرمتني من أي استياء».
حينما تكون طفلا تكون القدرة على التخييل خصبة.. في كتابه «تقشير البصل» يتحدث عن والدته التي توفيت جراء مرض السرطان في عمر السابعة والخمسين. بعد سنتين عاد من نهاية الحرب العالمية الثانية، عاد الطفل إلى حضن والدته ولرؤية والده واخته. وجد والدته وقد طردت من مدينة «دانزيك» امرأة منكسرة وهرمة.. منذ ذاك التاريخ أضحى طعم الأمومة أكبر مركب لشخصيته، ولم يسع للبحث عن طبيب نفسي، وكانت هي الينبوع لكل إبداعاته.
في «تقشير البصل» يحكي عن حكاية شاب/ طفل (هو الكاتب) الذي كان في عداد الموتى في الحرب العالمية الثانية. يتكلم عن شخصيته المفضلة أوسكار ماتزنرات الذي لم يكبر وظل على حاله منذ زمن الحرب..
في عمر السادسة عشرة كان يمكنه البقاء على قيد الحياة فقط عن طريق الصدفة. في غضون ثلاثة أو أربعة أسابيع على بدء الحرب.. كان له خمس أو ست فرص لكسر عمره. ما قام به بعد ذلك، رغم الكتب التي ألفها، رغم جائزة نوبل التي حصل عليها (1999) هو الاستمرار في العيش بفضل أن يشتغل أكثر. هنا استحضر «أسطورة سيزيف» وكم من مرة عليه أن يتعارك مع الصخرة.. إنه مجرد عمل.. ولكن ما أضافه ألبير كامو أن سيزيف إنسان سعيد… وهذا بالنسبة له هو الأهم، تأويل جديد لأسطورة سيزيف. كان السبب الرئيسي في العمق هو الألم.. فلكل إنسان وضعيته الخاصة، وهو اختار أن يعبر عنها فنيا في طبقات البصل.
فطوال حياته وحتى يومنا هذا.. والمدهش في هذا أن ألمانيا كما يراها قصة بلانهاية، لأن المحرقة والإبادة الجماعية، وهذه الجرائم الرهيبة تشكل تاريخا لم ينته بعد.. الآن نراه في اليونان، أوكرانيا، العراق، روسيا وفلسطين. إن الألم هو السبب الرئيسي الذي يجعله يبدع ويشتغل. يردد بحرقة، نحن المسؤولون، ولدينا الإمكانية والقدرة على تدمير أنفسنا لتخليص هذا العالم من هذا الخطر. إلى جانب هذا البؤس الاجتماعي هناك مشاكل الاحتباس الحراري. على الإنسان أن يترك وراءه هذه «المزبلة النووية».
كانت الحرب الأهلية الإسبانية بالنسبة له فقط تدريبا مسبقا للحرب العالمية الثانية، كما كانت حرب اليابان على منشوريا إيذانا باندلاع هذه الحرب. إنها الأخطاء السابقة نفسها التي تعاد في فلسطين، العراق، سوريا… إنها حرب في الأرجاء تؤشر إلى حرب عالمية ثالثة.
في كتابه «قرني» (القرن العشرين) يتحدث عن عصر الأيديولوجيات وعن شرور العالم، وهل يمكن للمرء أن يتعلم من أخطاء الماضي. هل لنا القدرة على فهم الأخطاء التي ارتكبناها منذ 1989.
غونتر غراس، رجل الاستعارات.. أوسكار الطفل، اليوم هو شخص مميز، عليه أن يناضل ضد مقاومات مختلفة ومع نفسه، أن يتحرك في أجواء معقدة ومختلفة.. هو لا يشبه أوسكار الطفل الذي نجا من الموت بالصدفة.. إنه نوع من المرآة لها مكبر قادر على إشعال الحريق، خلافا لذلك فهو قادرعلى التعبير على صبيانية القرن العشرين، وهو لم يرغب في المشاركة أو الدفاع عنها… فقط الشمس وحدها قادرة أن تحكم مزاجية هذا العالم.
يرحل المفكر والروائي والشاعر غونتر غراس (16 أكتوبر/تشرين الأول 1927/ 13 أبريل/نيسان 2015) وهو يقشر طبقات بصل عن هذا العالم بشاعرية طفل لم ولن يكبر منذ أن كان طفلا في الحرب وفي مصحة للأمراض النفسية.
ما أحوجنا في العالم العربي لفهم هذا الشاعر الذي عاش الأهواء والأنواء وصارع بقلب شاعر على أن يكون إنسانا فقط بعيدا عن شرور العالم وشاهدا معذبا عن فظاعاته.
عبدالله الساورة