الوحدة والتقسيم ظاهرتان عاصرتا نمو المجتمع الانساني منذ القدم، وما تزالان تتحديانه في القرن الحادي والعشرين. هذا برغم الحديث المتواصل عن تقدم الانسانية ووعيها وبلوغها مستويات عليا من النضج الاخلاقي والسياسي، وبرغم الفرضية القائلة بان الانسانية «عائلة واحدة»، وتأكيد القرآن الكريم على ذلك : «كان الناس أمة واحدة»، وقول الامام علي بن ابي طالب: «الناس صنفان: اما أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق». وبرغم مشاعر الاحباط، فما تزال قيم الوحدة معشوقة الجماهير في كل مكان في الجانب النظري على الاقل. فلا احد يعشق الفرقة والتمزق والشتات. ولكن المشكلة ان من يعمل لتمزيق الوحدة انما يطرحها ممزوجة بقيم «المصلحة» او «الحفاظ على السلم الاهلي» وغير ذلك.
ويمكن القول ان نهاية الحرب الباردة توجت بحدث فريد من نوعه: توحيد شطري مدينة برلين الالمانية وهدم الجدار الذي فصلهما 27 عاما. غير ان هذه الوحدة لم تكتمل بعد، فما تزال مشاعر الماضي تفرض نفسها على سكان تلك المدينة، وما تزال التقارير تتحدث عن حواجز نفسية ومشاعر الاحباط. وما اكثر محاولات لم شمل الشعوب التي مزقتها الحروب والخلافات السياسية. فاليمن الذي فرقته اطماع اهله واعدائه، طالما تلهف لوحدة شطريه، وقد تحققت تلك الوحدة برهة، ولكنها سرعان ما تعرضت لانتكاسات سياسية ونفسية. وها هو اليمن اليوم يتعرض لاحتلال غاشم يعمل حثيثا لتمزيقه ليس شمالا وجنوبا فحسب، بل وفق اسس التمايز الاخرى كالقبلية والمذهبية. وقد ارتفعت الاصوات المطالبة بانفصال الجنوب عن الشمال خصوصا بعد ان سيطرت دولة الامارات العربية على عدن، وانتشرت المجموعات المسلحة في حضرموت ومناطق اخرى. وقصة اليمن واحدة من التجارب المرة التي يمتزج فيها القليل من الامل بالكثير من الاحباط.
ظاهرة تمزق الاوطان اصبحت تهدد المجتمعات الانسانية في مناطق شتى. ولم تسلم منها الدول المحكومة بـ «الديمقراطية». فما تشهده اسبانيا في الوقت الحاضر من نزعات انفصالية اصبح يهدد ذلك البلد الذي ما ان بدأ طريقه للخروج من ازمته المالية العاصفة حتى برزت نزعات الانفصال. وعندما صوت سكان اقليم كاتالونيا الشهر الماضي على الانفصال وتحقيق ما يعتبرونه «استقلالا» اصبحت اسبانيا مهدا للاحتجاجات الصاخبة التي اكتنفتها مشاهد عنف غير مسبوقة. ولتأكيد سلطة الحكومة المركزية اصبح هناك استهداف لقادة الانفصال الذين كانوا يحكمون تلك المقاطعة.
الأزمة هذه المرة تتجاوز الحدود الاسبانية لتشمل الاتحاد الأوروبي. هذا الاتحاد رفض نزعة الانفصال ولكنه اصبح مطالبا بمواقف قد تتناقض مع قيمه وسياساته، فهناك ضغوط على بلجيكا لتسليم قادة الانفصال الذين لجأوا اليها مؤخرا بعد ان اصدرت الحكومة المركزية قرارات باعتقالهم ومحاكمتهم. كاتالونيا تحولت إلى بالون اختبار ليس للوحدة الاسبانية فحسب بل لبقية الدول التي تعاني من نزعات انفصالية خطيرة. وبلجيكا التي اصبحت طرفا في الصراع الاسباني، تعاني هي الأخرى من دعوات انفصالية قديمة.
ويمكن القول ان بريطانيا هي البلد الاوروبي الآخر الذي يؤرقه شبح الانفصال والتفتت، لاسباب عديدة. فالأزمة الايرلندية التي يفترض انها قد حلت تمثل شبحا دائما لا يغيب عن الحياة السياسية. فمثلا فاز حزب «شن فين» الذي يعتبر الجناح السياسي للجيش الايرلندي الشمالي فاز في الانتخابات البرلمانية الاخيرة بسبعة مقاعد، ولكن اعضاءه لا يحضرون جلسات البرلمان البرلماني لاعتراضهم على قسم الولاء والطاعة للملكة، مع احتفاظهم بحقوقهم الاخرى. كما ان جمهورية ايرلندا نفسها عضو بالاتحاد الاوروبي ولكنها قلقة جدا بعد القرار البريطاني الانسحاب منه، لأنها ستواجه قضية الحدود بينها وبين بريطانيا بعد اكتمال اجراءات الانسحاب. يضاف إلى ذلك وجود رغبة جامحة لدى قطاع واسع من سكان مقاطعة اسكتلاندا بالاستقلال والانفصال عن بريطانيا. ومع ان الاستفتاء الذي أجري اكثر من عامين لم يحقق الاغلبية لدعاة الانفصال إلا ان شبحه ماثل امام الساسة البريطانيين، خصوصا ان الحزب الاسكتلاندي الأكبر بزعامة السيدة نيكولا ستيرجن يتبنى مشروع الانفصال ويهدد باستفتاء جديد. وما لم يحسم مستقبل اسكتلاندا وايرلندا الشمالية فمن المتوقع بروز مطالب اخرى بانفصال ويلز وربما كورنوول ايضا. هذه النزعة للانفصال لها اسبابها التي من بينها الشعور بتهميش ثقافة شعوب تلك الاقاليم وغياب التوزيع العادل للثروة وكذلك التهميش السياسي.
وفيما يستذكر العالم هذه الأيام الذكرى المئوية لوعد بلفور المشؤوم، فانه استحضر ايضا تبعات ذلك الاعلان ليس على صعيد فلسطين وأهلها الذين دفعوا ثمن ذلك الاعلان باهظا بل على المنطقة كلها. الفلسطينيون قدموا آلاف الشهداء، وفقدوا ارضهم، وطردوا من اوطانهم. والأشد ايلاما ان بريطانيا التي أسست لذلك لم تكتف بالصمت بل احتفت بالذكرى المشؤومة واستضافت واحدا من أبشع رموز الاحتلال، وتعاملت معه كرجل دولة متجاهلة انهار الدماء التي اسالها وما يزال يفعل.وقد ساهمت الامم المتحدة في صناعة الازمة الفلسطينية. فبعد ثلاثين عاما على صدور إعلان بلفور، اصدرت تلك المنظمة قرارها رقم 181 عام 1947 الذي تبنّى خطة تقسيم فلسطين القاضية بإنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وتقسيم أراضيها إلى 3 كيانات جديدة، كالتالي: دولة عربية: تبلغ مساحتها حوالي 4.300 ميل مربع (11.000 كـم2) ما يمثل 42.3٪ من فلسطين وتقع على الجليل الغربي، ومدينة عكا، والضفة الغربية، والساحل الجنوبي الممتد من شمال مدينة أسدود وجنوباً حتى رفح، مع جزء من الصحراء على طول الشريط الحدودي مع مصر. دولة يهودية: تبلغ مساحتها حوالي 5.700 ميل مربع (15.000 كـم2) ما يمثل 57.7٪ من فلسطين وتقع على السهل الساحلي من حيفا وحتى جنوب تل أبيب، والجليل الشرقي بما في ذلك بحيرة طبريا وإصبع الجليل، والنقب بما في ذلك أم الرشراش أو ما يعرف بإيلات حالياً. اما القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة فتبقى تحت وصاية دولية. وبعد سبعين عاما على صدور قرار التقسيم ما يزال الفلسطينيون محرومين من وطنهم ودولتهم، في ظل نظام دولي جائر يساند القوي ويتخلى عن الضعيف.
تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ، ذلك هو المشروع الغربي في المنطقة العربية، ماضيا وحاضرا. قبل ستة اعوام قسم السودان إلى بلدين، ومنح جنوب السودان استقلالا عن شماله بعد حروب استمرت عقودا، اثيرت فيها النزعات العرقية والدينية. كان ذلك عقابا للسودان على سياساته التي اعلنت تطبيق الشريعة واصبحت محسوبة على تيار الإسلام السياسي، برغم ان حاكمه ضابط وصل للسلطة بانقلاب عسكري على حكومة منتخبة في 1989. وتواصلت الضغوط على ذلك البلد، وتم التلويح بورقة دارفور التي شهدت حربا طاحنة منذ العام 2003 وقتل فيها مئات الآلاف. ولتفادي ذلك غير السودان في السنوات الاخيرة سياساته الخارجية وتقارب مع الغرب، خصوصا بعد ان اصدرت محكمة الجنايات الدولية قرارا باعتقال الرئيس عمر البشير. هذا القرار اصبح لاغيا بعد ان تقارب البشير مع السعودية وأمريكا، وقطع علاقاته مع إيران. مع ذلك سيظل سيف التمزيق مسلطا على السودان، كما على غيره من البلدان العربية الكبرى كمصر وسوريا والعراق. فطرح قضية أكراد العراق بالشكل والزخم الاخيرين يؤكد رغبة الغرب في اللعب على التناقضات واستغلالها لتمكين وجوده السياسي والعسكري في المنطقة. وعندما تصرفت الحكومة المركزية بحزم تم احتواء مشكلة انفصال الاكراد عن العراق، وبالتالي تم تجميد مشروع تقسيم الدول التي تضم جاليات كردية كبيرة مثل سوريا وتركيا وروسيا وإيران.
ما مستقبل التوجهات الانفصالية؟ إذا استمر العالم بلا قيادة وبدون قيم أخلاقية تحكم مساره، فستتصاعد نزعات الانفصال والتفتت، اما إذا اصبح هناك نظام عالمي مركزي يتمتع باذرع ضاربة وقيم اخلاقية وانسانية عميقة، فمن المتعذر حدوث تصدعات كبرى في الكيانات السياسية القائمة. وبرغم استسخاف مقولة وحدة الامة، إلا انها تظل الضامن الاقوى لوقف مسلسل التصدع والانفصال وتتضاءل دوافع الكيانات الصغيرة للاستقلال. عندها تتعمق بذور الانتماء والوحدة والتقارب بدلا من التصدع والتمزق والتفتيت.
٭ كاتب بحريني
د. سعيد الشهابي