قبل أن نعاقد المتلقي على مسمى رواية

حجم الخط
1

سأجوّز لنفسي القول بأن الرواية عالم مقترح وبديل للواقع المعيش.. وعليه فإن هذا العالم الذي يقترحه كاتب ما، يجب أن يتوفر على عناصر غير العناصر التي يعيشها الواقع، أو تنسجه عنه الحكاية، بشكلها التجميلي.. وهذا يعني أن الرواية لا تعني ولا يجب أن تكون صورة فوتوغرافية عن الواقع، وأيضا ليست صورة فوتوغرافية (معدلة على الفوتو شوب) لتناسب (قيم) وعادات مجتمع ما؛ بل أن الرواية عامل خلق إزاحي، يقوم على فكرة اقتراح البديل المتوفر على عناصر الدهش والقدرة على توريط المتلقي في قبوله والتفاعل معه، كعالم بديل، قابل للحياة، لتوفره على عناصر وجماليات يفتقر إليها الواقع.
وبهذا المعنى تكون الرواية عملية التواء ولي الواقع المعيش ليكون أكثر جمالا وأكثر قدرة على الحياة بذاته، وأكثر امتلاء بذاته، وأكبر قدرة على استيعاب عمليات الإحلال وجدلياتها، وتقبل مضافات فعل الحياة، خارج إطار المعهود والمتقبل، بما يسمح بكسر القوالب وإعادة تلوين بعض أجزاء اللوحة، بما لم تألفه الذائقة العامة، والبورجوازية (البورجوازية بمعناها الاستاتيكي المحافظ) منها، على وجه التخصيص.
فعل الحياة، ومنذ سقوط آدم وحواء من على حفافي نهر العسل (أسطورة الخطيئة الأولى)، ينطوي على أحجية مريرة، لا تملك ما يكفي من مبررات الإقناع والتوصيل، ولهذا اخترع الإنسان اللغة والكتابة، من أجل عملية التعبير عن رؤيته لنواحي الخلل في تلك الأحجية، ومن ثم اخترع وسائل التعبير عن تلك الرؤى، في هيئة الأجناس الأدبية… التي كانت من بينها الرواية، كشكل لتدوين الاقتراحات الجمالية وطرح البدائل، وأيضا لتسجيل الاحتجاج على مفارقات واختلالات بنية المعيش اليومي.
ووفق هذا التصور، تكون الرواية عملية خض وتقويض لمألوفات البنى الاجتماعية والقيمية، من ناحية، وعملية ردم لفراغات الحياة، وما اصطلح عليه بقوانينها، بالخيال، من ناحية أخرى، من أجل أن تكون أكثر جمالا، وأكثر انسجاما مع نوازع الإنسان واشتهاءاته، التي ناصبتها الفلسفة العداء، باعتبارها مناقضة لمنطق العقل، متناسية أن تلك النوازع والاشتهاءات هي جزء أساسي من تركيب وفطرة الإنسان، وهذا ما اشتغل عليه العملاق، غابريل غارسيا ماركيز، على سبيل المثال، في معظم رواياته، وبالأخص في رائعته «مئة عام من العزلة».
الرواية ليست عملية تجميل للواقع، على طريقة رؤية البدوي للجمال، عن طريق حجب أو تغطية الأجزاء غير الجميلة في سلوكه أو عاداته، بل هي عملية اختبار وتفكيك للوقائع واقتراح البدائل الجمالية، مهما كانت مناقضة ومعادية للمألوفات، والاجتماعية منها، على وجه الخصوص.. وبهذا المعنى يكون مجال اشتغالها توريطيا ومقوضا وناسفا لأرضية أسس المسلمات، اجتماعية وقيمية، وإحلال بدائل عنها، أكثر جمالية وانسجاما مع مخيال الإنسان وليس مع احتياجات معيشه اليومي وقوانين الربح والخسارة التي تحكمه.
ويكمن اشتغال الرواية الحقيقي، في الوهدة التي تطفو فيها حيوات شخوصها وأحداثها عن أرض الواقع، لتبني حياة جديدة، تترك خلفها أوزار وأعباء الواقع اليومي ومراراته، وتفتح نافذة للتشوّف والتطلع ورؤية الحياة بلا آلام وبلا انتظارات… وحرق المسافات والمراحل، بين مدى بصر الإنسان ونهاية نفق حياته… معيشه اليومي… والوصول به إلى نهاية تقبلها نوازعه واشتهاءاته (هل عليّ أن أستخدم مصطلح علم النفس وأقول عقده النفسية؟) حتى وإن كانت بمنتهى المأساوية، وهذا هو بالضبط ما يسقط عن فن الرواية تهمة تزويق الواقع وغش المتلقي بالأوهام وأحلام اليقظة الكاذبة أو العصية على التحقيق.
الناس تقرأ الرواية لتتجاوز أو لتنسى همومها لبعض الوقت، كحد أدنى من القبول، وعليه يكون على الرواية تقديم أكبر قدر من الدهش والطفو على الواقع ومشاكله العصية على الحل، وهذا هو بالضبط ما تراهن عليه الرواية في خلق فرص إنضاج الأفكار وتيسير عملية قبولها في الوجدان الإنساني، كفرص ممكنات لعملية التغيير وإحلال البديل الأكثر انسجاما مع فطرة الإنسان وصيغة الجانب البدائي في تكوينه الطبيعي الذي وجد عليه.. وهذا يعني أو يماثل، بطريقة من الطرق، عملية إلقاء حجر في مياه المستنقع الراكدة.. ولكن حجر الرواية، وبالتأكيد، هو أكثر مضاء من مجرد حجر أصم، لأن حجر الرواية الكبيرة، يجب أن يكون مشبعا بالكثير من الأفكار والرؤى الجديدة..، وأيضا الخاضة والدافعة للتفكير والتمرد على سلبية الحياة اليومية ورؤيتها بعين واحدة… وأيضا صبغ المعيش اليومي للأشياء من حولنا بلون واحد… لون قوانين الاتفاق البورجوازي أو سلطة المجموع الاجتماعي.

٭ روائي وناقد عراقي

سامي البدري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صالح الرزوق - سوريا:

    معك أن الرواية عالم نابض بالحياة. نتنفس فيها مع الشخصيات و الأفكار. لكن لسوء الحظ لم يتصادف أن غيرت أية رواية من حياتنا للأفضل بل هي أحيانا نقمة على الكاتب و الناشر. ألم يخسر لورنس بعشيق الليدي شاترلي اسمه و سمعته و منع تداول اسمه في جامعة نوتنغهام التي درس فيها. و قل نفس الشيء عن فلوبير .
    الأدب تحتاج لمثقف و المثقف يقاوم فرض المتغيرات إن لم يخترها بنفسه. أما عامة الناس فهي تغوص في أوحال الحياة و مباهجها..

إشترك في قائمتنا البريدية