قتْل اللغة صَبْرًا

اللغات الطبيعية تموت كما يموت البشر ولئن كان بعض المتشبّثين بحياة أخرى بعد الموت يأملون في أنّهم يُبعثون من جديد فليس للغات الميّتة من أمل في إعادة البعث إلاّ في استثناءات نادرة لن تتكرر إلا لمرّة عبر مئات السنين. تموت اللغات حين لا تجد من يتكلمها ومن يتواصل بها مع غيره في تفاصيل الحياة اليوميّة.
أن تموت اللغات فذلك حدث يوميّ والحزين فيه أنّه لن يبكيها أحد ولن يمشي في جنازتها أحد لأنّها تكون، وهي تحتضر، قد شَيَّعت إلى مثواه الأخير آخر متكلميها.
القول بأنّ لغة ما لا يمكن أن تموت قول فيه تفاؤل جميل، لكنّه خدّاع لأنّه لا توجد لغات كبرى تملك صكوك الأبديّة، وقديما ماتت لغات كانت في زمانها واسعة الانتشار كالأكدية والآرامية. تموت أعتى اللغات بآفات كثيرة: سياسيّة حين تضعف دولتها وثقافية حين تكسد سوقها ولكن – وهذا هو الذي يهمّنا هنا – حين ينتصب لها حرّاس يدّعون الذّود عنها.
اللغات مهما كانت صغيرة أو كبيرة عامّيّة أو فصيحة راقية أو سوقيّة لا تحتاج حرّاسا لسبب بسيط أنّ من يتكلم لسانا يحتكم بالضرورة إلى قواعد ذهنيّة ضمنيّة إنْ تكلّمها بالسليقة (اللغة الأمّ) وصريحة إنْ تكلّمها بمساعدة معلّم (اللغات الثانية أو الأجنبية)؛ فما يسمّى باللّحن، وهو البوّابة التي يدخل منها عادة حرّاس اللغة، لا يكون إلا في اللغات الثانية. فطبيعي أن يلحن متكلّموها ويصلحوا لحنهم بأنفسهم أو بمساعدة ولم نسمع عن لحن قتل لسانا أو حرّفه عن أصله مثلما قد يدّعي حرّاس اللغات.
حرّاس اللغة مختلفون باختلاف العصور والأمصار لكنّهم موجودون مِنْ غير أن ينصّبهم منصّب ومن غير أن تدعوهم اللغة إليها. هم يشبهون من يستولون في بعض أقطارنا اليوم على موقف عام للسيارات ليمتهنوا فيه الحراسة غصبا تراهم يحملون عصا غليظة يطلبون بها رزقا يعطى لهم خوفا من إلحاق الأذية بالسيارة ويعرف الناس أنّ تلك السيارة في حضورهم أقلّ أمانا.
في تاريخ اللغات الطبيعيّة ومنها العربيّة للنّحويّ دوران مختلفان أحدهما أن يقعّد اللغة ويعلّل أشكال استخدامها هذا دور نظريّ مهمّ يجعل اللغة قابلة للتعلّم باعتماد قواعد صريحة وواضحة وقابلة لأن تكون موضوع تنظير وتفكير لسانيّ قد يرقى إلى طور الكونيّة؛ لكنّ الدور الثاني الذي لا تحتاجه اللغة هو أن يصبح النحويّ موازنا بين اللغات مفضّلا إحداها على الأخرى وفي كثير من الأحيان ينقل قداسة النصوص التي كتبت بها إلى تلك اللغة. ومعلوم أنّ من بديهات التفكير اللّساني أنْ لا تفاضل بين اللغات لأنّ الألسن متساوية في وظيفتها الإبلاغية فلا توجد لغة مقدّسة وأخرى مدنّسة، أقصى ما يقال إنّ هناك لغات حيّة ورائجة وأخرى منحسرة أو في طور الزوال بهذا تتفاضل الألسن: أي بدرجة دورانها لا بقداسة ليست فيها.
وما فعله النّحاة العرب القدامى أو غيرهم بهذه الحراسة هو أنّهم قتلوا أشكالا من الإنجاز اللّهجي بعد أن حجبوها عن كتبهم حتى بمجرّد الذكر، فادّعوا أنّ تلك اللهجات هي لغات مُحرّفة؛ ولو صدّقنا بعض الأطاريح المعاصرة لقلنا إنّ تلك اللهجات كانت تعيش بالتوازي مع إنجاز فصيح مثلما تعيش لهجاتنا اليوم مع فُصْحَانا. فلو تعاملوا مع اللغات من غير حراسة تسدّ أمامها الأبواب لكان لدينا اليوم تصوّر واضح عن الكيفيّة التي كانت تعيش بها الفصحى بين عاميّاتها في القرون الماضية، غير أنّ صمتهم وحجبهم ذلك الإنجاز باسم حراسة اللغة الفصحى جعلت المسألة تظلّ عند الباحثين اليوم رهن التخمين والرجم بالغيب.
كان البلاغيّون أيضا حَرَسَةً للّغات حين أوهموا الناس بأنّ اللغة الراقية هي الفصيحة، وأنّ لغة العامة تلك التي نتكلم بها – نحن وهُمْ- في حياتنا اليومية هي لغة مبتذلة والحال أنّ في تلك اللغة ما في غيرها من المُحسِّنات والعُدول المحبّذ ومن الاستعارات غير أنّه يُتجاهل أو يقلل من شأنه. ولقد توهم حرّاس اللغة من البلاغيّين بأنّ هناك لغات أفصح من لغات وأنّ بعض اللغات لا تعدو في حقيقتها أن تكون زقزقة عصافير أو نقيق ضفادع ولقد ردّ القدامى أنفسهم على هذه الإدّعاءات فقال الجاحظ مثلا (في الحيوان 1/32):إنّ «الإنسان فصيح وإنْ عبّر عن نفسه بالفارسيّة أو بالهنديّة أو بالروميّة» أي أنّ كلّ إنسان إنّما هو فصيح بلسانه.هذا الضرب من الحراسة سدّ المنافذ أمام التعرّف على أساليب متنوعة من المؤكّد أنّها كانت حيّة في الكلام اليوميّ الحيّ.
كثير من الحرّاس اليوم هم من المدرّسين الذين يضطلعون بتعليم اليافعين والراشدين لغة الضاد أو لغة موليير أو شكسبير أو غيرها. المشكل العويص في السياسة التي تتبعها فئة منهم في تعليمها ويمكن القول في هذا الصّدد إنّ معضلتنا في الوطن العربي باتت في مناهج تعليم اللغات تعليما ييسّر أخذها ويلطّف التعامل معها. بعض معلّمي اللغة يتصرفون بشكل يعتقدون به أنّهم يحرسون اللغة ولكنهم في الحقيقة يقتلونها بجعلها لغة منبوذة كتابة ومطالعة. من الصّعب اليوم أن نسلّم بأنّ المدرّس عارف باللغة أكثر من غيره حتّى من طلبته أو المميزين من تلامذته فالعصر باتت فيه الوسائط الحيّة أبوابا مشرعة أمام تعلّم تلك اللغات. لم يعد المدرّس اليوم العالم الأوحد باللغات التي يدرّسها يمكن أن يعرف شيئا وتغيب عنه أشياء يعرفها طالبه الذي يكون مطلعا عليها. وهذا يصدق على التحرير وإنشاء الكتابة بتلك اللغات. الإنشاء ضرب من الإبداع ليس متاحا للمعلّم ويمكن أن يفوق المتعلّم معلّمه في الإبداع غير أنّ صلف المعلّم الذي فينا وكوننا نعتقد أنّنا حَرَسَةُ اللغات لا يجعلنا نسلّم بذلك. حرّاس اللّغة ليسوا دائما مميّزين في الكتابة والإبداع هم في الغالب متشبّثون بالقواعد وبتعليم النّاس «قل أو لا تقل» وبتسقط اللحن على أفواه الواقعين فيه. هم مازالوا إلى اليوم يتسقطون الأخطاء ويشنعون على المخطئين وبدلا من أن يوجدوا الألفة الممكنة والبسيطة بين اللغة ومتعلّميها تراهم يعقّدون ويعسّرون فينفّرون من تعليم اللغة؛ وعندها يصبح النفور من تعلّم اللغة بوّابة من بوّابات قتلها البطيء.
صحيح ما قاله بعض معاصرينا من أنّ عدم تعليم لغة هو قتلها وقتل لغة هو جريمة. ونحن نقول إنّ سوء التدبير أثناء تعليم لغة هو تعذيب لها حتّى الموت؛ أو بتعبير القدامى هو قتلٌ لها صَبْرا.. وفي هذا أكثر من جريمة.

أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسيّة.

قتْل اللغة صَبْرًا

توفيق قريرة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول كلارك:

    لم يدع أحد أن لغة العامة لغة مبتذلة، ولا أدري من أين جاء الكاتب بها، بل قالوا أنها دارجة خاصة بمكان معين، وأنها غير مفهومة بآخ ولهذا فضلوا الفصحى لأنها مفهومة من الجميع، وليس في هذا ضير، حتى الإنكليزية فيها عاميات كثيرة مستبعدة

  2. يقول نورالدين كحلاوي:

    أرى أن صاحب المقال محق في كل ما قاله عن موت اللغات. والعربية الفصحى مصيرها الموت لأن لا نتكلم أصلي لها (بمعنى أنها ليست اللغة او باللهجة الأم لأحد). بقي أنها تستعمل لوظائف معينة في المجتمعات التي اختارتها كلغة/لهجة ترتقي عن الجهات الأخرى. ومن اللهجات المصنفة الجهات او عمليات عربية ما يمكن اعتباره لغة مستقلة عن العربية. ما لا يتحرك/يتقدم فهو يتأخر حتما. أرى أن وقع باللهجة الفصحى على الطفل التونسي في يومه الأول بالمدرسة هو وقع لغة ثانية تقول له: لقد حرفتني وعليك العودة إلى اصولك ونلاحظ أن لا شيء يحدث ويشيخ الطفل التونسية متكامل بالتونسية. هل يظن دعاة التحريف ان من قدم إلى إفريقية من العرب كانوا شعراء العرب وفصحائهم؟

  3. يقول الدكتورجمال البدري:

    أبالله أنت صادق بقولك : ( والعربية الفصحى مصيرها الموت…) ؟ سأقول لك وللسّيد كاتب المقال…في دول شمال أفريقيا ( العربية ) أكثر
    دولة أحتلت من قبل فرنسا حتى فرّنسوا ثقافتها ولسانها هي الجزائر( 130 سنة ). وحتى الآن بعد الاستقلال أغلب حديث أهلها الفرنسية…
    في المشرق العربيّ ؛ خصعت بلاد الشام والعراق لأكثرمن (400 سنة ) للدولة العثمانية ؛ ولا نجد أحداً يتكلّم التركية إلا أفراداً محدودين.ماذا يعني ذلك ؟ هي الشخصية وقدرتها على استيعاب الآخر…ومن قبل جاء المغول إلى المشرق العربيّ فذابوا رغم طغيانهم العسكري.وأسأل ماذا قدّمت اللغة الفرنسية لشعوب أفريقيا العربية ؟ العربية الفصحى لن تموت مادام هناك قرآن الحيّ الذي لا يموت ؛ بدليل أنّ الأمم المتحدة اعتمدتها لغة عالمية كغيرها من لغات خمس لأعضاء مجلس الأمن : الإنكليزية والصينية والفرنسية والإسبانية والروسية.وليعلم الجميع أنّ القرآن ليس مجرد كتاب رباني كالتوراة والإنجيل…بل القرآن ( الدال والمدلول ) لنا..وهذه هي عقدة الاستشراق التي لم يستطع قهرها ؛ ولن.

  4. يقول حمزه المغرب:

    اللغه ايه من ايات الله
    العربيه فصيها مثل عاميها ولكن اللهجات تختلف واللهجه هي بطاقه صويته لمعرفة المتكلم ويعرف العرب بعضهم بالوسم والتفرس
    والفصحى وان اختلفت عن العاميه الا انها مثل ظل الشى يكاد يطابقه لكن الكاتب يدعى ولم يكتب مصدر ماكتب واقتبس قوله
    ( وما فعله النّحاة العرب القدامى أو غيرهم بهذه الحراسة هو أنّهم قتلوا أشكالا من الإنجاز اللّهجي بعد أن حجبوها عن كتبهم حتى بمجرّد الذكر، فادّعوا أنّ تلك اللهجات هي لغات مُحرّفة؛ ) من اين اتيت بهذا
    الخلاصه اترك اللغات فهى من عند الله وزوالها من عند الله
    الا اننا نحيلك لما توصل اليه الباحثون أخير عن اللغات التي تستمر وتبحث في محرك البحث وتجد ضالتك

  5. يقول الدكتورجمال البدري:

    سألني أحدهم : وماذا تعني ( القرآن الدال والمدلول لنا…).وأقول : إنّ الفلسفة تقوم على الدال وهوالموجود ؛ وتصوّرهذا الدال في الذهن يسمّى المدلول.والدال دائماً ملموس ؛ والمدلول ( متصوّر).وكلّ متصوّرمخلوق في الذهن والخاطروالعقل…إلا القرآن فهوالدال الملموس وهوالمدلول المحسوس في آن واحد…لأنه غيرمخلوق ؛ فهوصفة الخالق سبحانه وتعالى..وهذا تجسيد لقول الله الواحد : { عالم الغيب والشهادة }.أي أنّ الله هوإله في السّماء وكذلك هوإله في الأرض ؛ فهودال ومدلول معاً أي الواحد الأحد ؛ لا انفصال بين ذاته وصفته سبحانه وتعالى عما يشركون.
    أما في الفلسفة والذين تأثروا بها ؛ فإنّ الدال ( الموجود ) ليس هوالمدلول في العقل ؛ بل متصوّرمفترض…وهذا يتعارض مع حقيقة القرآن : كونه الحقيقة الواقعة ؛ ومن هنا قال الله فيه :{ وبالحقّ أنزلناه وبالحقّ نزل ؛ وما أرسلناك إلا مُبشراً ونذيراً }( الإسراء 105).لاحظ { مبشراً } للدال لأنّ القرآن بشارة للمؤمنين بالحقّ…{ ونذيراً } للمدلول ؛ لأنّ القرآن نذارة للمنكرين للحقّ.ومن هنا أيضاً قال : { وقل الحقّ من ربّكم ؛ فمنْ شاء فليؤمن ؛ ومنْ شاء فليكفر}( الكهف 29).وهذه هي الحريّة المسؤولة ؛ بعد بيان البديل والدليل.لا حرية الإرهاب الوبيل والغلوالعليل.
    وتأسيساًعلى ذلك ( فقه ) المتشرقون هذه ( العلة ) فأرادوا جعل دال القرآن الملموس ؛ مدلولاً غيرمحسوس ؛ لزعزعة منظومة العقيدة ففشلوا.

إشترك في قائمتنا البريدية