القاهرة ـ «القدس العربي»: تعد أعمال «داوود عبد السيد» من التجارب السينمائية القليلة في مصر والسينما العربية بوجه عام، التي يمكن أن نقول إنها تنتمي إلى السينما الفكرية، بمعنى أن الحكاية السينمائية ما هي إلا الإطار الشكلي لاحتواء هذه الأفكار والتعبير عنها.
كما في أفلامه «البحث عن سيد مرزوق»، «أرض الخوف»، «مواطن ومخبر وحرامي»، «رسائل البحر»، وفيلمه الأخير والمعروض حالياً «قدرات غير عادية»، ونظراً لهذا النهج فأعمال عبد السيد دوماً تتم مشاهدتها من حيث كونها نصوصاً مرئية، وبالتالي تحتمل التأويل، وهنا يصبح صانع الفيلم مفارقا لما أنتجه، ويصبح المُتلقي حُراً في رؤيته، وربما هي سمة أخرى تميز هذه السينما. والفيلم من تأليف وإخراج: داوود عبد السيد، مدير التصوير: مروان صابر، مهندس الديكور: أنسي أبو سيف، مونتاج: منى ربيع، موسيقى: راجح داوود، صوت: جمعة عبد اللطيف. تمثيل: خالد أبو النجا، نجلاء بدر، عباس أبو الحسن، أحمد كمال، محمود الجندي، حسن كامي، أكرم الشرقاوي، سامي مغاوري، ياسر علي ماهر، إيهاب أيوب، والطفلة مريم تامر.
إطار الحكاية
يحيى المنقبادي/خالد أبو النجا طبيب يقوم بإجراء أبحاث عن القدرات غير العادية لدى البشر، إلا أن أستاذه يُثنيه مؤقتاً عن البحث، ويخبره بأن الجهات العليا في الدولة هي التي ستتولى البحث عن مثل هؤلاء، وستخبره. وبذلك فهو في إجازة لمدة شهر، يستريح خلالها ويُعيد ترتيب أفكاره، فيذهب إلى الإسكندرية، ويصل بالمُصادفة إلى بنسيون تمتلكه امرأة تدعى حياة/نجلاء بدر، تعيش مع طفلتها فريدة/مريم تامر، وبعض النزلاء الرجال المنشد/محمود الجندي، المغني الأوبرالي/حسن كامي، الفنان التشكيلي/أحمد كمال، والمخرج الوثائقي/أكرم الشرقاوي، الغربي الذي أغرم بالإسكندرية ولم يُفارقها منذ زيارته لها، والخادم/إيهاب أيوب. يكتشف يحيى أن الطفلة فريدة تمتلك قدرات خاصة، سواء في معرفة الأحداث والتنبؤ بها، أو تحريك الأشياء عن بُعد، فيظن أنه وجد ضالته أخيراً. من ناحية أخرى يتواصل يحيى مع حياة وتنمو بينهما حالة حب متباينة أسبابها. تكشف فريدة عن مواهبها وهي في حالة لهو طفولي، فتبدأ الأجهزة الأمنية في تتبعها هي وأمها، التي تترك المكان وتواصل رحلات هروبها، وعندما تشعر بأنها وهي كذلك من المفترض أنها حُرّة تبدو مُقيّدة أكثر من كونها مسجونة! فتذهب بنفسها إلى البوليس، ليقابلها الضابط المسؤول عن الأمر بكامله، عُمر/عباس أبو الحسن، فيأوي مريم ويتزوج من حياة، مريم التي امتنعت عن الكلام وزارتها الكوابيس، فكان اللجوء إلى يحيى مرّة أخرى، الذي أصبحت تنتابه الإحساسات بكونه هو الآخر يمتلك مثل هذه القدرات غير العادية، التي يتجلى أبسطها في تحريك الأشياء عن بُعد، أو توارد الخواطر والسيطرة على الأفكار، فالأمر صادر عنه بالأساس، رغم أنه رأى بعينه ما فعلته فريدة، ليبدو أن هذه القدرات غير قاصرة على أحد، أنها تبحث عن الشخص الذي يصدق تماماً أنه يمتلكها، وإن شكّ فقدها.
الشخصيات والبحث عن جدوى وجودها
نرى أن الفيلم امتداد لحكاية طويلة بدأت بـ»أرض الخوف»، مروراً بـ»رسائل البحر»، وحتى «قدرات غير عادية»، لا يقتصر الأمر على أسماء الشخصيات الرئيسة.. يحيى، حياة، فريدة، وعُمر. ولكن مسألة البحث عن يقين، التي ترسم حكايات هذه الأفلام، والتأكد من جدوى الوجود ومهمة الإنسان وقدراته على الاستمرار في الحياة واكتشافها. وكيف يمكن الاسترشاد أو التوسل بأفكار أيديولوجية، أو موروثات عقائدية وثقل أو خَفة الشخوص التي مثلتها، والموصوفون بالأنبياء أو الرسل. ومن الصراع ما بين «يحيى» و»عمر» صراع لا رحمة فيه كما في «أرض الخوف»، يتعاطف عبد السيد أكثر في «قدرات غير عادية»، شارحاً فكرة التميز التي طالما حلم بها عمر، لكنه كان في وهم كبير، لأنه في النهاية أقر بفشله في امتلاكه لمثل هذه القدرات. ضابط كان في طفولته يصلي ويصوم ويؤدي الفروض. والشخصية هنا من الواضح تماماً أنها مُستمدة من موروث أساطير الأديان الإبراهيمة. ومن مهمة تحقيق العدل واكتشاف الجريمة، التي كان يقوم بها يحيى في «أرض الخوف» ــ قام بالدور أحمد زكي ــ في عالم الموروثاث/المخدرات، ولو على سبيل الرمز، يصبح يحيى في «قدرات غير عادية» باحثاً عن قدرته نفسها كإنسان يستحق الوجود، وذلك عن طريق التفكير العقلي الصرف، فالتسليم بما هو كائن لن يصل به إلى شيء. وهو المشهد الذي جمعه بأحد شيوخ الصوفية/سامي مغاوري، الذي أقر بأن لا مكان ليحيى بينهم، فهو يفكر ويُراقب، ولا سبيل إلى المعرفة في العُرف الصوفي إلا بالتسليم المُطلق، وعندها من الممكن أن تمسسك روح المعرفة والكشف، وأن تصل أو تتواصل مع المُطلق. وفي حالة من الاكتشاف ــ لا الكشف ــ تختلط أصوات المنشد مع صوت مُغني الأوبرا في هذا الجو الصوفي، وبين أزقة وبنايات القاهرة الإسلامية، فالكل يبحث ويحاول الوصول بطريقته، ومَن يستسلم هنا يسقط، ويرتكن إلى ذكرياته أو ما كان ينتوي، لا ما يعيشه بالفعل. مغني الأوبرا على سبيل المثال ورفيقه المُنشد، هما أول مَن لاحظا آثار علاقة الحب على ملامح حياة.
جبريل ورفاقه
عالم السيرك ودوره في إشاعة البهجة في نفوس المخلوقات، من مُهرّج يثير الضحكات وألعاب خطرة تثير الرعب، لكن في النهاية ينتهي الأمر بتصفيق الجمهور. جبريل هنا هو أكبر المهرجين في السيرك، وأول مَن صدق وآمن بقدرات فريدة، وقد رآها بعينيه، فما كان منه إلا أن يجمع رفاقه، ويذهب بهم ليلاً ليقفوا أسفل شرفتها، ويكادوا يركعون، ووجوههم تطالعها في أمل ورجاء كبيرين. والمشهد بالكامل تنويعة على مشهد شهير، مُستمد بدوره من الأساطير الدينية. هذه اللعبة يقوم بها عبد السيد مراراً، سواء بتجسيدها أو الإيحاء بها، «موسى» عامل البريد في «أرض الخوف»، ومشكلته أنه قرأ الرسائل وتعاطف فقط، و»هدهد» في الفيلم نفسه، صاحب الإيمان المُطلق، ومُنفذ المشيئة الإلهية وفق مفهومه، والذي يأمُر فيُطاع في لمح البصر.
النهايات وحالة العزلة
من حالة الخوف والرعب التي ينتهي بها بطل «أرض الخوف»، بأن يعيش في طابق مرتفع في إحدى البنايات، سلاحه لا يُفارقه، ويطالع السماء، ويحلم بالعودة مرّة أخرى، إلى حالة القلق العبثي في «رسائل البحر» بالانتهاء في مركب يطفو مُتمايلاً في البحر، تحيطه الأسماك الميتة من كل جانب، وصولاً إلى الاحتماء بالبنسيون، ورواده، حيث جميعهم ممسوسون بالفن. والعودة مرّة أخرى، كمحاولة لتلمّس بعض الأمان، في حضرة حياة وفريدة.
الجيل الجديد
ومن فريدة الطفلة يمكن التساؤل، الذي طرحه عبد السيد في النهاية، بمشهد وجود وعودة السيرك والعديد من الأطفال يسرعون للاحتفاء به، هل من بين هؤلاء مَن يمتلك قدرات غير عادية؟ فالتي أرشدت يحيى إلى مكان فريدة طفلة في مثل سنّها ــ تُذكّر هذه الحالة بلمحة من ملحمة سلمان رشدي «أطفال مُنتصف الليل» ــ الأمر يتعلق بجيل جديد، من الممكن أن يمتلك وعياً بالتغيير إن آمن بنفسه، ومواجهة موروثات وأساطير دينية واجتماعية، وفي النهاية يتعلق بثورة على مفهوم السُلطة الكائنة، أياً كان شكلها أو رمزها، رغم التربص المزمن للسلطه به. هذه الحالة تُذكّر بحالة الأب الذي صنع حضّانة في المنزل لطفله المولود، كما جاء في فيلم «البحث عن سيد مرزوق». جيل جديد بعيد عن التشوّش والتشوه، واستغلاله من قِبل الجميع، وأولهم السُلطة، التي ظهرت في استغلال فريدة على سبيل المثال، وإصابتها بالكوابيس والامتناع عن الكلام.
الإيقاع ومشكلاته
مهّد عبد السيد لعالم الفيلم بسرد مُطوّل، ومواقف باهتة لشخصيات البنسيون، بخلاف حياة وفريدة. فكانت الشخصيات أشبه بالدُمى أكثر من كونها شخصيات حيّة ومتفاعلة ــ كانت أشبه بكورَس إيمائي ــ لماذا عزلتهم المفروضة، ولماذا هم هنا بالأساس؟ لا أحد يدري! فالمواقف مُفتعلة إلى حدٍ كبير، وهو ما انعكس على الأداء التمثيلي، المتباين والمضطرب في معظم الأحوال. من ناحية أخرى نجد اللقطات الكثيرة ــ الفوتومونتاج ــ التي صاحبت رحلة يحيى إلى الموالد ومقامات الأولياء، والسير بين الآثار الإسلامية، وتعليقه الصوتي المُصاحب، وأسئلته حول جدوى وسبب ما يحدث لهذه المخلوقات والالتجاء إلى مثل هذا العالم.
صوت الرواي أو وجهة النظر السردية
من المشكلات الأخرى التي طالت الفيلم، هي وجهة النظر السردية، فأي صوت هو الذي يقود حركة السرد. طوال الفيلم يبدو يحيى هو المسيطر على حالة السرد، هو الذي يُعلّق ويستنتج ويُفسر ما يراه أو حتى يثير التساؤلات، وفجأة تحتل حياة الجزء الضئيل من امتلاك الصوت السارد، فتحكي وتفسر بدورها. الأمر هنا لا يتعلق بصوت مفرد أو تعدد أصوات، لكنه يتعلق بحالة التوازن ما بين هذه الأصوات، والإيحاء بأن هناك تشارُكا ما لهذه الأصوات. وما كان أجدر بتوفير مساحة ما لعُمر، وقد استعاض عبد السيد ــ عُمر الدخيل على هذه العلاقة، رغم التسامح معه إلى حدٍ كبير ــ بحديث عُمر عن نفسه إلى يحيى، وكأنه في حالة نادرة من حالات الاعتراف ــ البار كبديل لغرفة الاعتراف ــ عما كان يظن، وما يعيشه الآن، مهجور ووحيد. وهو في النهاية تأصيل لحالة معروفة في فلسفات الميتافيزيقا، فأي منهما يستحق الشفقة أو نظرة رحمة … يحيى، أم عُمر؟
محمد عبد الرحيم