قراءة من واقع الانتخابات المصرية وما يحيطها من التباس

بدأت إجراءات الانتخابات النيابية الجديدة في مصر.. وفيها من الأحوال ما لم يتغير كثيرا.. وبعضه اتجه نحو الأسوا.. فالقوى القديمة، التي ثار عليها الشعب عادت؛ بتحد واضح وشراسة ملفتة.. وتسعى بقوة لكسب الانتخابات، وما زالت تراهن على كل ما هو قديم وفاسد ومتخلف ومؤمرك ومصهين.. وتملك من «التهويش» الكثير، وتصور للناس روعة وجلال عصر الاحتلال بما فيه من الفقر والجهل والمرض. وزينت «وسائط الاتصال الأكتروني» والقنوات المرئية والفضائية حياة العائلة المالكة السابقة، وفخمت قصور الإقطاع، وركزت على ثراء أصحاب الأبعاديات وكبار ملاك الأراضي، وغنى تجار القطن.. وكان وقتها المقابل للثروة النفطية الراهنة.. ويمكن وصفه بـ»النفط الأبيض»؛ كل هؤلاء لم يتجاوزوا نسبة «النصف في المئة»، وإن كانوا الطبقة الأغنى في المنطقة.
وكانت نسبتهم الضئيلة.. مجرد قطرة في بحر الشعب المطحون.. ومن يغوص في أعماق المجتع يكتشف أن الغالبية العظمى من عامة الناس لا تأخذ ذلك «التهويش» على محمل الجد.. وهناك من بين المخضرمين الذين انتشلتهم ثورة 1952، وحالت بينهم وبين وراثة أوضاع الآباء والأجداد المتردية؛ هؤلاء يقاومون هذا «التهويش»، ويحصنون أبناءهم وأحفادهم من أثاره، مع كشف حقائق ذلك العصر.. وفي نفس الوقت نجد أن من بين ذوي الأصول الفقيرة من يعادي ثورة يوليو ويدينها ويهيل التراب عليها وعلى منجزاتها؛ أملا في احتلال مكانة ووضع يتصوره أفضل في تحالف آخر يتكافأ مع تحالف الاحتلال والقصر والإقطاع، والمتمثل حاليا في ثالوث الاستبداد والفساد والتبعية. وهو ثالوث سرطاني تمكن من كل شيء في البلاد، وتركها خربة مدمرة وضعيفة.
والمعركة محتدمة الآن بين مليارديرات المعونة الأمريكية، وأثرياء التطبيع و»المناطق الصناعية المؤهلة»، التي تروج للمنتج المصري إذا ما دخلته خامة أو منتج صهيوني.. وهي معاهدة معروفة بـ»الكويز»، ومن الطبيعي أن يتعاون هذا الحلف مع أثرياء المذاهب وملوك الطوائف وشيوخ الفتن، فكلهم يعمل جاهدا على إعادة المجتمع إلى انقسامه القديم.. وحصره في طبقتين من السادة والعبيد؛ قلة من السادة تملك كل شيء، وصاحبة سلطان على مستوى الحكم والدولة.. واستشرى تأثيرها بعد ثورة 30 يونيو.. وكما اختطفت ثورة 25 يناير؛ من قِبَل ملوك الطوائف وأئمة المذاهب وشيوخ الفتن.. فإن ثورة 30 يونيو تختطف من الفلول ورجال أعمال تربوا في أحضان «الدولة البوليسية».. وهم من يمولون الثورة المضادة طوال العامين الماضيين.
ويلفت النظر أن هناك من عرف الطريق إلى مسؤولي دولة الإمارات؛ مستغلا عاطفة المصريين نحو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان؛ رئيس الدولة الراحل، وأقام له تمثالا في ضاحية «الشيخ زايد» القريبة من القاهرة.. ودخول مثل هذا الشخص على خط مصر الإمارات يسيء للبلدين.. بسبب شبهات فساد تحوم حول نشاطه وعمله قبل ثورة 25 يناير.. وأحاطت بمصادر ثرواته الطائلة المجهولة.. وهناك من يؤكد أنها نظير خدمات أمنية، وأعمال «بوليسية»، ومُنح لقربه من وزير الداخلية الأسبق الأراضي والعقارات في كل بقاع مصر؛ خاصة في المجتمعات العمرانية الجديدة.. ويبدو أنه يسعى ويراهن على دور لسفارة دولة الإمارات في القاهرة في اجتياز معركة انتخابات صعبة.. ويعلم أن احتمال فوزه ضعيف للغاية؛ فالناخبون يرفضونه.. وشباب دائرته يصرون على منعه من دخولها.. وإذا ما حاول توريط الإمارات من خلال السفارة أو من غيرها يُفقد سياسة الإمارات كثيرا من مصداقيتها العالية بين المصريين..
وهذا الشباب سبق وطعن في جدارته ليمثلهم في البرلمان، وطالبوا بتشكيل لجنة تختبر قدرته ومعرفته القراءة والكتابة.. وقيل يومها أن ما منع تنفيذ ذلك علاقاته بحبيب العادلي ومساعديه.. إلى أن تفتق ذهنه عن إقامة تمثال لرئيس دولة الإمارات الراحل.. و ضع تحته إهداء منه لدولة الإمارات ممهورا باسمه.. وذهبت بنفسي وتأكدت من وجود التمثال وصحة هذه المعلومة!.
وليس ذلك مصدر قلق وحيد من تطورات الانتخابات المصرية؛ فالقلق الأكبر من الطواقم الوزارية والحكومية؛ المنتقاة لشغل وظائفها ليس لكفاءتها ولكن لانتماءاتها ومصالحها المعادية للثورة والمستعلية على الشعب، وبما لها من خبرة طويلة في التخلص من القوى المنتجة (فلاحية وعمالية ووسطى)؛ ومن النوع الفاجر والقادر على هدم الاقتصاد وعلى حرمان الشعب من الخدمات.. ولما يملك من ملكات «سوداء» بتحصيل الجبايات غير المبررة من الفقراء ومحدودي الدخل، وتمكين أنصار الخصخصة من المواقع والمناصب العليا والحساسة في الدولة؛ ورضخوا بدورهم لأباطرة شركات المحمول، وتخلصوا من المدير التنفيذي لـ»الشركة المصرية للاتصالات».. ومكنوا منها أباطرة «المحمول» الثلاثة، وصادروا حقها في المنافسة بامتلاك «شبكة رابعة» للهواتف المحمولة؛ وكان من المفترض أن الوزراء والمسؤولين الذين يضربون بحقوق الدولة عرض الحائط أن يتقاضوا مرتباتهم وامتيازاتهم من تلك الاحتكارات التي يخدمونها.. وقد استمروا في احتكار السوق، وفرض الأسعار العالية للخدمة.. وراح الرجل ضحية تواطؤ وزير الاتصالات والحكومة مع حيتان المال والأعمال والاحتكار!.
وكلما أمعنت هذه الأطقم في الضغط على الشعب أبعدت الدولة والحكومة أميالا وفراسخ عن هدف «العدالة الاجتماعية» وهو «فريضة» غابت عن السياسة الرسمية – غير الرشيدة – وانحيازها المستمر للأنشطة الريعية وتفضيل واستسهال الاستيراد على تشجيع وحماية الانتاج الوطني، وتحصر توزيع الأراضي الزراعية المستصلحة على الخريجين.. وتمنعها عن صغار الفلاحين والمزارعين. والغالبية العظمى للخريجين لا تمتهن الفلاحة، ولا شأن لها بالزراعة. وذلك كي تذهب الأرض لغير مستحقيها، ويتم «تصقيعها» وكسب مبالغ طائلة من ورائها.. وأرض مصر لا يجب أن تترك لنهب الحكومات.. فتمنحها للأكثر ثراءً ونفوذا وقدرة، وأغلبهم من أباطرة «الاقتصاد الموازي» وغسيل الأموال!. وأغلب وزراء ومسؤولي مصر الكبار يعانون من إعاقات وعاهات سياسية واجتماعية ونفسية وذهنية؛ فوزير التجارة والصناعة؛ مثلا، يضرب بأحكام القضاء بفساد الخصخصة عرض الحائط، والسبب أن القضاء أعاد للدولة بعض مصانعها المخربة.. ولم يتخذ الوزير خطوة واحدة لتأهيلها وتشغيلها، فيساهم في تخفيف حدة البطالة المتفاقمة.. ومثل هذه الحكومات لا لزوم لها ولا يجب أن تبقى!.
وأضحت الانتخابات في الظرف الراهن فرصة سانحة أمام القوى المعادية؛ محلية وإقليمية ودولية؛ فتلعب بأصابعها فيها، وتجد الأصابع الصهيونية حاضرة بجانب الأصابع الأمريكية والغربية.. وشواهدها واضحة في نشاط جماعات الضغط المرتبطة بها، وحملاتها عن طريق صحفها وأجهزة إعلامها؛ عربية اللسان؛ لكنها عبرية الهوى والهوية، وتدعو لمنع بناء المحطات النووية على أرض «الضبعة» بالساحل الشمالي على المتوسط؛ والمخصصة لذلك من 1981 والمناداة بتحويل الأرض لمنتجعات، وتكون بذلك أجدى لمصالحهم ونهبهم.. وأعلنوا حربا ضارية ضد توجه الدولة نحو روسيا والصين ودول الشرق (أرجو أن أكتب عن هذه الحرب في عدد قادم بإذن الله).. ومنظمو هذه الحملة يملكون ظهيرا ماليا وبوليسيا متمكنا، وعاد أقوى مما كان قبل 25 يناير 2011.. ومكون من «رجال أعمال أمْنَجِيّة»؛ يعملون لحساب جهاز أمن الدولة السابق، وهو الذي صنعهم وأوصلهم إلى ما هم فيه من ثراء فاحش وتوحش وقدرة على البطش.. ومصر من البلاد القليلة التي يكثر فيها رجال أعمال وأثرياء من هذا النوع؛ ممن تراكمت ثرواتهم من العمل البوليسي، وفي حماية وفرها حكم جمال مبارك «الموازي».. فبجانب أدوارهم السياسية والاقتصادية اخترقوا مجالات الرياضة واستقطبوا مسؤولي الأندية الكبرى؛ ومنهم من استعد للإنقضاض على المجتمع وافتراسه في أي لحظة.
وهؤلاء يعملون بقوة لإبعاد الدولة عن تنفيذ المشروعات الكبرى. مع وجود مؤشرات تؤكد تفاقم مشكلة الفقر وانخفاض مستوى المعيشة.. ولولا الطواقم العاجزة حول الرئيس السيسي لاختلف عائد نشاطه الخارجي وأتى أكله.. ووجودها حال دون انتعاش طبقات وشرائح دنيا ووسطى وارتفع مستواها المعيشي، ولم ينخفض عما كان عليه من عامين.. والمحير في الأمر كثيرا هو غموض والتباس شروط اختيار شاغلي المناصب التنفيذية وغير التنفيذية العليا في بلد مأزوم. وانتخابات تجري وسط مناخ ملبد بكل هذه الغيوم تبقى مشكلة وليست حلا!.

٭ كاتب من مصر يقيم في لندن

محمد عبد الحكم دياب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سمير الإسكندرانى........لابد لليل ان ينجلى:

    كلمة انتخابات لا تستوى و لا تتسق ولا حتى يجب ان تُذكر فى نفس الجملة مع الانقلابات العسكرية!!
    وخاصة عندما يكون الانقلاب من النوع الكفتاوى !

إشترك في قائمتنا البريدية