لا نظنّ، ونحن نقرأ كتاب إكرام عبدي «قصاصات غيم» (دار العين للنشر 2014)؛ أنّنا في حاجة إلى تبيين الفروق بين «بلاغة الصّمت» أو «شعريّة الصمت»، على النّحو الذي نسوقه، و»بلاغة السّكوت»؛ كما جاءت الإشارة إليها في المدوّنة النّقديّة والبلاغيّة القديمة. من ذلك ما نسب إلى ابن المقفّع وقد سئل: ما البلاغة؟ فقال: «إسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة، فمنها ما يكون في السّكوت، ومنها ما يكون في الاستماع». وقد عقّب ابن رشيق: «فهذا ابن المقفّع جعل من السّكوت بلاغة، رغبة في الإيجاز». وقد أورد صاحب العمدة أبياتا من شعره ومن شعر آخرين في بلاغة السّكوت التي لا علاقة لها بالنّصّ أو بالكتابة.
إنّ الصّمت مفهوم اشكاليّ، إذ هو لا ينهض على حامل لغويّ محسوس، فهو فراغ نصّيّ وخواء وفضاء براح، قد يتّسع في الخطاب، وقد يضيق. وهو اسم بلا مسمّى وانقطاع في الكلام لا معنى له في الظّاهر. ومع ذلك فإنّ هذا الفراغ إشارة شأنه شأن الكلمة. فالصّمت»يتكلّم» و»بلاغته» يمكن أن تنهض بوظيفة رئيسَة في التّخاطب، حتّى إن كان حاملها هذه الإشارة» إلى «معدوم» أو «غير معلوم» بعبارة القدماء. وسؤالنا هو: بم نفسّر هذا الاقتضاب اللغوي في نصّ إكرام؟
والحقّ أنّ مواقع الصّمت من الوفرة والغنى في هذا النص، إذ نقف عليها في بنية الجملة والصّورة، وما يعتريها من حذف واقتضاب وبتر وإضمار وإيجاز، وما إليها مثل التّنبيه والمواربة؛ وخاصّة الجمل التي تنتظمها صيغة الأمر: «تنحَّ قليلا أيّها الظلّ عن جسدي/ كيْ تمرّ شمسي»؛ فهذا تنويع طريف على ديوجين «الكلبي»؛ وخاصّة قوله للإسكندر: «أريد منك شيئا واحدا؛ إنّك الآن تقف أمامي، وتحجب عنّي أشعّة الشمس…
لا تحجب شمسي بظلك!» أو قولها: «دعني أصقلْ مرآتي/ فتبصرني فيها بعماك/ أو: «تنحّ قليلا أيّها الموج عن بحري/ كي يمرّ اصطخابي»…
والجملة الشعريّة في هذه النصوص مقتضبة حقّا. وقد يقع في وهم النّاظر فيها أنّها مبنيّة على كلام متقدّم لم تقيّده الشّاعرة. وهو اقتضاب قد نحمله على معنى الادّعاء أو الإيهام.
على أنّ هذا الاقتضاب أو الحذف أو الإضمار إن شئنا، فراغ أو صمت قائم في الخطاب نفسه، ومن شأنه أن يضفي على البيت دلالة مقدّرة مضمرة في حيّز ما يسمّى «القابل للوقوع». والصّمت إنّما يكون؛ على الأرجح لحظة تتعطّل اللّغة، أوهي تقصّر عن قول ما «لا ينقال». فإذا لم يكن كذلك، فهو اختياريّ. وفي الحالين كليهما: حالي الاضطرار والاختيار، نلحظ موقف الشّاعرة من اللّغة، وما عسى أن يكون لهذا «الصّمت» من أثر في خطابها.
ثمّة سببان على الأقل يفسّران هذا الاقتضاب أو الإضمار؛ أي هذا «الصمت» الذي يميّز كلّ هذه النصوص. والّسببان هما القصور والرّفض.
أمّا القصور وهو عجز الذّات عن إشباع حاجة ناجمة عن مقام ما أو موقف ما، ومصدره غالبا عجز اللّغة أو ضيق العبارة أو «الوهن في النّظام اللّغويّ». وقد يكون مصدره أشياء أو حالات تحتبس في لا وعي المتكلّم ونوازع واستيهامات وميول؛ تومئ إليها الشاعرة أو ترمز.
وهذا الشعر رمزيّ أقرب ما يكون إلى عالم المغربي عبد الكبير الخطيبي في «المناضل على الطريقة الطاويّة»، أو أدونيس في «مفرد بصيغة الجمع». والصورة الرمزيّة هي تلك التي تنهض على محمول محسوس يرمز إلى معنى أو موضوع مجرّد، من خلال تراسل سرّيّ تقيمه الشّاعرة بين العالم وما تنشد قوله. وصورة كهذه لا يمكن إلاّ أن تكون محكومة بذاتيّة الشّاعرة أو برؤيتها الخاصّة، بالرغم من أنّ الرّمز المحسوس فيها يتعلّق بما هو حافّ.
أمّا الرّفض فأساسه تمرّد على الخطاب الاجتماعيّ الذي تنكر عليه الذّات من جملة ما تنكر استعماله الرّواسم المكرورة أو أعرافه وتقاليده، وكلّ ما تعوزه الصّفات الفرديّة المميّزة من النّماذج اللّغوية الجاهزة المتعاودة.
ولعلّ هذا ما يجعل الزمن هنا عديم الشّكل، شأنه شأن إيقاع الشعر. ولا سبيل إلى أن نجلوه في مجلى الرّؤية، إلاّ إذا أضفينا عليه صورة أو هيئة أو قيّدناه بشكل؛ أي وقّعّناه. والمفارقة أنّ إدراك إيقاع زمنيّ هو نفسه «لا زمنيّ»؛ إذ يستلزم الإدراك نظرة متزامنة لأكثر من جزء. وبعبارة أخرى فإنّ الزّمن يدرك كلّما أمكن توقيعه، فيما الإيقاع لا يدرك إلاّ إذا أُلغيَ الزّمن. على أنّ النّصّ الشّعريّ ليس منذورا لهذه المفارقة، إذ يمكن أن يستخدم زمنا لا شكل له أو زمنا تخيّليّا يدرك بالبديهة والاستبصار أي دون اعتماد على خبرة سابقة. وهذا الزّمن أقرب ما يكون إلى زمن دينيّ يقوم على نبوءات وحدوس، وهو موقّع منغّم ؛لأنّ «الأمر عند الانسان يتعلّق دائما بتأنيس الزّمن في المتخيّل وسحره». ولعلّ هذا أن يفسّر اطّراد صيغة الأمر في هذه القصاصات؛ فقد لا تكون سوى ضرب من «مورفولوجيّة الغيبيّ».
إذن، لعلّ في هذه العوامل مجتمعة: عجز اللّغة أو «الوهن في النّظام اللّغويّ» أو التمرّد على نظام الخطاب «الايديولوجيّ» القائم المكتظّ بالرّواسم والنّماذج اللّغوية المكرورة؛ تلك التي عدمت القدرة على استيفاء أغراض الشّاعرة وحاجاتها في تسمية ما لا يسمّى، أو في أن يكون لها كلامها المملوك لا المشاع؛ لطول اشتراكها وجريانها مجرى المجمل، ما يفسّر ولع الشّاعرة بصيغة الأمر خاصّة؛ بكلّ المعاني التي تفيدها وخاصّة التكوين.
وإذا الشاعرة كمن يتدارك هذه الألفاظ من ضياع أو فتور، ويطلقها من عقال الألفة حيث الدّوالّ نفسها تزدوج وتتعارض وتتناقض، لطول استعمالها وتواترها؛ وإذا هي تفكّ أنشوطتها وتجدّد فاعليّتها بواسطة تحويلات دلاليّة شتّى. وفي هذا ما يؤكّد حاجتنا المّاسة، ما تعلّق الأمر بالشعريّة عامّة: قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر أو قصيدة البياض؛ إلى إنشائيّة كلّ من الشّعر والنّثر، وما يمكن أن يترتّب عليها من تفاوت في لغويّ، ومن أثر في بناء الصّورة.
وهو رأي ينهض على فكرة تبدو لنا سائغة؛ مفادها أنّ الخطاب الأدبيّ «يتكوّن من الشّعر والنّثر، وما بينهما لا يعدو الفروق التي لا ترقى إلى مستوى التّقابل» فالتّقابل ليس بين الشّعر والنّثر، وإنّما هو بين الخطاب الأدبيّ والخطاب العاديّ.
ومن شأن هذا البحث أن يجعلنا نحكم التّمييز بين الأساليب التي يتوخّاها الشاعر/ الشاعرة، في استعمال الكلام العاديّ «النثريّ» أو ما جرت العادة به، و»النّثريّ» الفنّيّ وما هو مورّى وما هو معمّى؛ طبقا لعلائق المشابهة أو المجاورة بينها وبين «الشّعري». فإذا كان «الشّعري ّ» يقترن بـ»غير الشّعريّ» في هذا الخطاب فإنّ السّؤال الذي ينشأ: أهو اقتران استعاريّ أم هو اقتران كنائيّ؟ أم أنّ الأمر لا يعدو مناوبة بينهما تتّسع لتشمل الأنظمة اللّفظيّة على قدر ما تشمل الأنظمة الرّمزيّة؟ بل هل من حقّنا أن نميّز بين «شعريّ موزون» و»شعريّ غير موزون»؛ ما دامت كلّ هذه المستويات تنضوي إلى الخطاب نظما وإيقاعا؟ أليس من شأن هذا التّمييز أن يعيدنا إلى تلك القسمة القديمة التي تتوزّع الكلمات بمقتضاها على «شعريّ» و»غير شعريّ». وهي «قسمة ضيزي» يصعب أن نفهمها حقّ الفهم، ما لم نربطها بالسّياق التّاريخيّ الذي نشأت فيه، وبوضع عما جرى عليه الشعر والنقد مثلما جرت عليه العربية نفسها؟
بل أليس في الشّعر الذي نحن به ما يبطل التّمييز بين الكلام «العاديّ» والكلام «الفنّيّ»، فالشّعريّة تعلق بهذا مثلما تعلق بذلك؟ بل إنّ الرّسالة كثيرا ما تفلح في جذب الانتباه إلى إنشائيّتها الخاصّة، من خلال ظهور»العاديّ و»البسيط السّاذج» ظهورا مفاجئا يباده القارئ المتمرّس بالشّعر الموزون وبــ «لغته المثال».
لا يكفي في حدّ الخطاب القول إنّه يتكوّن من كلمات، فالأصوب أنّه مكوّن من كلمات يعلق بعضها ببعض في هيئات وصور مخصوصة. ومن ثمّة سوّغنا ترجمة المصطلح الشّائع في الدّراسات الحديثة «خطاب» بالنّظم حينا وبالإيقاع حينا.Discours Agencement -Rythme
بل نحن لا نجد أيّ ضرورة للفصل بين هذه المصطلحات الثّلاثة، ألاّ أن يكون ذلك على سبيل الإجراء المنهجيّ لا غير. والظواهر الشعريّة في أيّ نصّ، مترابطة إيقاعياّ بقوانين النّظم، ودلاليّا على أساس من قاعدة المجاورة. وكأن لا هدف للشّاعر/ الشاعرة؛ منها سوى أن يكنّي باللّغة عن اللّغة. غير أنّنا لا نحبّ أن نسارع؛ كأن نقرّر أنّ السّيادة في هذا الشّعر إنّما هي للكناية، وليست للاستعارة، أو أنّ خطة الكتابة الشّعريّة عند صديقتنا إكرام كنائيّة؛ حتّى وإن وقع في الظّن أنّ المجاورة هي القاعدة التي تجري عليه خطّة الكتابة في «القصاصات»، أو أغرتنا بعض الظّواهر الاسلوبيّة في شعرها بهذا الطّرح.
ناقد تونسي
منصف الوهايبي
لقد استف دتركثيرا من قراءة الكاتب منصف الوهايبي يستحق التقدير
وأبان عن قدرات الشاعرة اكرام التي استطاعت في ديوانها الأخير ان ترسل كلماتها بأناقة مفرطة وبصور جميلة تستحق اكثر من قراءة