ستذكر السعودية للملك عبدالله بن عبد العزيز (1924- 2015) الذي توفي يوم الجمعة محاولته الحذرة لتحقيق إصلاحات، فالملك الذي وصل إلى السلطة متأخرا في سن الثمانين جاء لبلد يعاني من نكسات وأزمات ويتمتع بميزة واحدة وهي النفط، فالملك استطاع خلال عمره الطويل العبور عبر خلافات العائلة التي وضع مصالحها في اعتباراته ونجاتها كأهم قضية. ولكن التاريخ السعودي الحديث سيذكر للملك دفاعه عن المرأة. كان الملك عبدالله أول من منح المرأة مركزا في مجلس الشورى وأول من وعدها بالمشاركة في الإنتخابات المحلية التي ستعقد هذا العام. وفي موضوع المرأة كان الملك عبدالله يكمل ما بدأته «الملكة» عفت الثنيان زوجة الملك فيصل أحد أهم ملوك المملكة العربية السعودية منذ وفاة المؤسس للدولة السعودية الثالثة عام 1953 عبد العزيز بن سعود. ومن النادر أن تكتب قصص النساء البانيات في السعودية، ففي بلد لا يجلس فيه الملك على عرش ويطلق على زوجته لقب أميرة تظل المرأة في الظل وقلة من النساء السعوديات اللاتي كتبت قصصهن وعرفنا عن دور بعضهن مثل حصة السديري التي كانت ذات حظوة عند الملك عبد العزيز وأصبح عددا من أولادها السبعة ملوكا. وباستثناء الرموز الأدبية وسيدات الأعمال ظلت المرأة وحتى وقت قريب تعيش على هامش الرجل حتى ولو كانت عاملة ومنجزة في عملها. ولهذا السبب يمكن النظر إلى كتاب الباحث الأمريكي جوزيف كشيشيان «عفت الثنيان: قصة ملكة عربية» الصادر حديثا بأنه إنجاز وعمل أكاديمي مهم في إطار التواريخ الشخصية لرموز العائلة السعودية الحاكمة.

رائدة تعليمية

وتنبع أهمية الملكة عفت من أنها رائدة تعليم المرأة في السعودية ومدرستها «دار الحنان» في جدة التي أنشئت في الخمسينيات من القرن الماضي شاهدة على رؤية وبعد نظر هذه السيدة. فقد تم إنشاء المدرسة في وقت كانت فيه نسبة التعليم لا تتعدي في السعودية 5٪ واليوم لا تتعدى نسبة الأمية نسبة 5٪ وحسب الإحصائيات السعودية يتفوق عدد البنات على الأولاد في الجامعات السعودية. وهناك عدد كبير من المبتعثات إلى الجامعات الغربية. ويعود كل هذا أو جزء منه لرؤية عفت الثنيان وأهمية التعليم في بناء الأمم.

دعم الملك فيصل

ومع ذلك فقصة الملكة لم تكن لتنجح لولا زواجها من الملك فيصل بن عبد العزيز ومن خلال قوته ودهائه استطاعت هذه المرأة التي كانت من داخل العائلة المالكة وخارجها في الوقت نفسه تحقيق ما تريد. ويقود أبناؤها اليوم جزءا من إدارة الدولة أمراء ووزراء وقادة في الطيران والجيش والإستخبارات وأكاديميين ورجال أعمال، والأمر نفسه يقال عن الأحفاد. فوزارة الخارجية ظلت حكرا على آل الفيصل منذ ولادة الدولة السعودية تولى إدارتها الأمير فيصل قبل أن يصبح ملكا ثم جاء ابنه سعود الفيصل الذي يعتبر أكبر وزير خارجية في العالم ويقودها منذ أربعة عقود. وبعيدا عن الإعتبارات العائلية والمنجز الذي حققته الملكة عفت عبر زوجها وأبنائها، فهناك «قصة» مثيرة يمكن حكايتها عن هذه السيدة، تشير لبداية فقيرة خارج السعودية، ومواجهة مصاعب وغياب أب كان طبيبا في الجيش ذهب إلى الميدان ولم يعد. وجاءت ولادتها في فترة تحولات غريبة كان يشهدها العالم، إنهيار امبراطورية قديمة وتشكلات جديدة في الجزيرة العربية، صعود رموز، واستعمار وحروب وموت ودمار.

من المنفتح إلى المنغلق

كما أن قصة الملكة عفت تثير شهية الباحث والقارئ على حد سواء من زاوية إختلاف السياق، فقد انتقلت من مجتمع مفتوح كوزموبوليتاني ينتشر فيه الكتاب والصحف والقراءة لمجتمع كانت القراءة فيه منحصرة في الطبقات الدينية وأبناء النخبة، مجتمع أكثر ما يمكن وصفه بالمغلق مع أن هذا الوصف لا ينطبق على الحجاز التي ظلت طوال تاريخها منطقة مفتوحة على المؤثرات الخارجية- الإسلامية- بسبب موسم الحج السنوي الذي يجلب إليها مئات الألوف من المسلمين والحجاج. والحج يذكرنا بقصة الملكة عفت، فقد جاءت مصادفة إلى الحجاز مدفوعة بالبحث عن أجدادها ورفقة لعمتها جوهران ولكن القدر وضعها أمام نائب الملك عبد العزيز على الحجاز الأمير فيصل الذي دهمه جمالها فتزوجها عام 1932 وكان عمرها ستة عشر عاما. وعاشت هذه السيدة لترى السعودية وهي تتغير. ولهذا يرى الكاتب أن الملكة عفت إن لم تكن بانية للمملكة فهي واحدة من بناتها ومن وضع أعمدتها. ومن هنا المقاربة بين استمرارية ما قامت به وواصله الملك عبدالله من ناحية تحسين وضع المرأة السعودية وبناء البلد بشكل عام.
ومن هنا نتساءل ما وجه الغرابة/ المتعة في قصة الملكة عفت، ونقول إنها كانت واحدة من البنات اللاتي يتمتهن الدولة العثمانية وعاشت بدايات الجمهورية التركية التي بناها الغازي مصطفى كمال أتاتورك. وشهدت كيف احتل الحلفاء مدينتها التي ولدت فيها اسطنبول حاضرة الباب العالي ومركز العالم لعدة قرون. وهنا مكمن الإثارة في القصة، وقصة الملكة مرتبطة بالصراع العثماني- المصري- السعودي على الجزيرة خاصة منطقة نجد التي ولدت فيها الدعوة الوهابية وحاول آل سعود توطيد دعائم ملكهم منذ القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين.

احمد الثنيان

بدأت قصة الملكة عفت عام 1841 عندما حكم نجد عبدالله الثنيان من فروع آل سعود حتى عام 1843 وعندما خسر السلطة نتيجة لثورة قادها فيصل التركي الذي حكم نجد مدى من الزمن واستقر فيه الحال. لكن المنطقة التابعة اسميا للدولة العثمانية نسيت وعاشت عزلة وكان لظهور عدد من آل سعود ممن حاولوا نيل حظوة العثمانيين. وكان منهم عبدالله بن عبدالله الثنيان الذي أقام في البصرة منذ عام 1876 وسافر إلى اسطنبول لإقناع العثمانيين بحقه في الملك. في الطريق إلى عاصمة الخلافة توقف في بوشهر ودمشق والقاهرة واتصل مع البريطانيين طالبا دعمهم ولم يستجيبوا له. ووصل إلى اسطنبول عام 1880 حيث لم يسمع عنه فيما بعد وظهر باسم عبدالله باشا ونسي حقه في الخلافة وأقام عند السلطان في دولمة بهجة. تزوج عبدالله باشا من سيدة شركسية اسمها «تازة روح» وأنجبت له أربعة أولاد وهم سليمان وتوأم أحمد وجوهران إضافة لمحمد سعود. وتزوج مرة ثانية وأنجبت له عبد الرحمن وعبد القادر. تزوج محمد سعود من سيدة شركسية اسمها آسيا وأنجبت له منيرة وعفت وزكي. وقتل محمد في الحرب في عام 1918 أو 1923 وعندما لم يعد تزوجت من جارها إبراهيم أدهم حيث أنجبت منه كمال أدهم وفتاة اسمها مظفر. في الوقت ذاته سافر أحمد خال عفت إلى السعودية بحثا عن جذوره وهناك تعرف على الملك المؤسس الذي استخدم ثقافة ومعرفة أحمد باللغات الأجنبية، فقد كان يتقن الفرنسية والتركية والانكليزية إضافة إلى العربية للقيام بمهام خارجية. وأصبح احمد المشرف على الأمير فيصل الذي زار لندن برفقة أحمد الثنيان عام 1919 وكانت الرحلة بمثابة تثقيف للأمير الذي أصبح ملكا ومحاولة من الملك عبد العزيز لإقناع بريطانيا بالتخلي عن الشريف حسين في مكة. بعد عودة أحمد من الرحلة إلى الرياض قرر العودة لاسطنبول بعدما أتعبته الحياة في الجزيرة العربية وتوفي عام 1920. ومن هنا بدأت رحلة عفت مع السعودية حيث رافقت عمتها التي أصبحت غير قادرة على المشي للإشراف عليها والتعرف على عائلتها. وشاء القدر أن تلتقي بالملك فيصل الذي أعجب بها وتزوجها بدون ان يستشير والده وكل ما فعله هو أنه أرسل إليه تلغرافا يخبره بقراره، وقدم له زوجته التي لم تكن تعرف العربية حيث بارك الزواج.

سموها تركية

وكانت مشكلة اللغة حاجزا في البداية أمام عفت للتواصل مع بقية الأميرات في مكة التي كان يقيم فيها الأمير فيصل وأطلق عليها لقب «التركية» ولم تكن اللغة المشكلة الوحيدة بل طابع الحياة المتقشف الذي كانت تتسم به الحجاز في ذلك الوقت. ومن هنا تبدو عزيمة الملكة عفت التي عملت على القيام ببرنامجها التعليمي وخدمه المملكة التي يؤكد عليها الكتاب. ويرسم كشيشيان صورة لملكة متحررة ليبرالية لم تشجب تقاليد مجتمعها ورغم ذلك لم تكن بعيدة عن الطابع الغربي في حياتها، فقد سافرت إلى الخارج ورافقت زوجها في رحلاته للدول الأجنبية، وظهرت إلى جانبه في لقائه مع الرؤساء، مثل حضورها حفلة العشاء التي أقامها الرئيس جورج بومبيدو في قصر الأليزيه عام 1972 تكريما للملك فيصل. وترسم السيرة الذاتية صورة حية عن ملكة مجدة وراعية لعائلتها الكبيرة والصغيرة ومحبة لعمل الخير وكيف كانت تنفق على الفقراء وأهم من هذا امرأة قادت نهضة نسائية ودافعت عن حقها بدون أن تثير حروبا مع المؤسسة التقليدية في البلاد.

شهادات الأبناء

لم يكن الكاتب ليستطيع إنجاز كتابه لولا تعامل أبناء الملكة عفت معه حيث أخذ شهادات من الأمراء، سعود وتركي وهيفاء ولؤلؤة الفيصل وغيرهم من الكتيبة التي تركتها الملكة وراءها وتضم أحفادا ومرافقين. ويرسم الكتاب قصة مثيرة تنحو أحيانا للتبجيل لفتاة عاشت ظروفا متواضعة في اسطنبول وأصبحت سيدة في الرياض وجدة. وهي قصة فيها الكثير من النجاح والفشل مما يجعل الكتاب وثيقة تاريخية مكملة لكتابه عن الملك فيصل «فيصل: ملك سعودي لكل الفصول» (2008). بل وجاءت بذرة الكتاب عن عفت أثناء بحثه في حياة العاهل السعودي الراحل.
استطاع الكاتب رصد التحولات الإجتماعية والثقافية والسياسية في السعودية من بداية القرن الماضي ودراسة العلاقات بين تركيا العثمانية والجزيرة. وأبرز من شهادات الأبناء والأحفاد صورة لأول ملكة سعودية، وأول سيرة عن حياة ملكة سعودية مما يجعله وثيقة مهمة للدارسين لتاريخ السعودية الحديث.

Joseph A. Kechichian: Iat AlThunayan: An Arabian Queen
Sussex Academic Press, 2015
pages.333

إبراهيم درويش