كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان. كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة. كان عهد الإيمان، وكان عهد الجحود. كان زمن النور، وكان زمن الظلمة. كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط. كان أمامنا شيء، ولم يكن أمامنا شيء. كنا جميعا ماضين إلى الجنة مباشرة، وكنا جميعاٌ ماضين إلى جهنم مباشرة.
هذه السطور الأولى من رواية تشارلز ديكينز «قصة مدينتين»… الرواية ترصد تقاطع العالمين الأنكلوسكسوني والفرانكفوني، في ظلال مشهد الثورة الفرنسية، ويبدو أن ثمة وجوها من التشابه بين الوصف الذي أرسله ديكينز على عصره، ولكن في نسخة أخرى. المدينتان هذه المرة، القاهرة واستانبول، والمشهد ثورة يناير 2011، والقصة تستحق أن تروى من بداية سحيقة في القدم.
الأتراك أمة طارئة شكلت وجودها من تلاقح أكثر من مصدر للقبائل المندفعة على امتداد السهوب الآسيوية باتجاه الأناضول، فالعرق الطوراني الذي تجتمع حوله أسطورة الدولة في تركيا طرأ على منطقة الأناضول في مرحلة متأخرة، والحديث عن الأسطورة في تشكيل الدولة لا يعد انتقاصا، فكل دولة تحتاج إلى أسطورتها الخاصة، ضمن مجموعة من الأصول المعنوية التي تنبني عليها في وجودها، العلم والنشيد الرسمي ومقررات التربية الوطنية، وحتى منتخبات كرة القدم، جميعها تمثل الجانب الشكلي الذي يعطي أي دولة كيانها الخاص، ويميزها عن غيرها، أما الجوهري في الدولة فيتمثل في المساحة الجغرافية والثروات الطبيعية والمواصفات الفسيولوجية والنفسية للمجتمع. تركيا تشبه بريطانيا في هذه المواصفات، بالمعنى الذي يستبدل السهوب الآسيوية ببحر الشمال طريق القبائل الجرمانية من أرض الأنكلز (الدنمارك حاليا) إلى الجزيرة البريطانية قبل أكثر من 1500 سنة، والأنكلوسكسونية كانت الشخصية البريطانية للاستقلال بهوية جديدة، بعد أن كانت اللغة الإنكليزية أنكلو- نورماندية، وبعد ذلك تحولت بريطانيا أو إنكلترا إلى القوة المهيمنة المعروفة، مستغلة عزلتها عن القارة الأوروبية بصراعاتها وصخبها. الأناضول مثلت ملاذا مثاليا للشعوب التركية، وأبقتهم فوق هضبتها على مبعدة من الصراعات الطاحنة التي تجري بين دول المشرق العربي في مصر وسوريا من جهة، والقبائل التترية والسلجوقية من جهة أخرى، قبل أن يتدخل الإفرنجة لتتزايد الصورة تعقيدا، ويستفيد العثمانيون من هذه الأوضاع لتأسيس امبراطورية باغتت المشرق بسطوتها وعنفوانها. الشيء نفسه حدث مع بريطانيا التي استطاعت أن تجني البدايات المبكرة لحركة الكشوفات الجغرافية وتختصرها في إمبراطوريتها الاستعمارية الهائلة.
للانتهاء من موضوع غير مستحب بالنسبة للمتعلقين بالواقع والقلقين بخصوص المستقبل، يمكن أن ننتهي لمقابلتين مهمتين، فبريطانيا والأناضول شرفتان تطل كل منهما على عالم يملؤه الصخب والعنف، وكلاهما يحتضنان أمتين حديثتين بالنسبة لأهل العالم (السفلي) العرب في حالة تركيا، والفرنجة في حالة بريطانيا، والمثير في الأمر، أن الصراع بين العرب والفرنجة في ما يعرف بالحروب الصليبية كان سببا جوهريا في صعود العثمانيين والإنكليز بوصفهما قوتين بديلتين.
الدخول في قصة المدينتين القاهرة واستانبول ومشهد ثورة يناير، يستلزم توضيحا لعلاقة مضطربة من تبادل الأدوار بين العاصمتين، فصعود القاهرة كان يعني في أكثر من حالة تراجعا وعزلة لاستانبول، وتغيب القاهرة كان يعني فرصة للاسترخاء بالنسبة للأتراك، فمشروع محمد علي كان يترافق مع تراجع العسكريتاريا العثمانية وأفول الزمن الإنكشاري، ونبرة عبد الناصر الواثقة في ذاتها والمدوية في العالم الثالث، كان يتزامن مع التراجع التركي المغرق في التردد والانكفاء إلى عزلتها، أما صعود استانبول في زمن التنمية والعدالة فكان يقابله انحطاط القاهرة في زمن لجنة سياسات التوريث.
إذا كانت الهند تمثل جوهرة التاج البريطاني، فإن مصر كانت بالنسبة للعثمانيين ياقوتة العرش العثماني، فلم يكن العثمانيون لينتزعوا لقب الخليفة مضافا إلى السلطان إلا بعد أن تمكن سليم الأول من تعليق طومان باي رأس مماليك مصر، أي بعد أكثر من مئتي عام تلت تأسيس دولتهم؛ وبينما اقتنع الإنكليز منذ زمن بأن الهند أصبحت وراء ظهورهم، وأن تاريخ استقلالها في الليلة الأخيرة من سنة 1947 كانت يرخي الستار على تجربتهم الإمبراطورية، فإن الأتراك لا يبدو أنهم يمتلكون النضج السياسي نفسه في تعاملهم مع مصر، خاصة بعد وجود دلائل (عثمنة) جديدة في استانبول كان يمارسها الرئيس أردوغان باستدعائه الرموز العثمانية القديمة بعد انتقاله إلى قصر الرئاسة الجديد. المصريون كانوا يكتبون التاريخ في ميدان التحرير ومدن مصر وأريافها، والأتراك يتفرجون، والمصريون اليوم يغرقون في الفوضى، والأتراك يتأهبون، وكل خطوة للأمام من القاهرة ستعني مثلها للوراء في استانبول، والعكس صحيح وسيبقى طالما أن الوضع القائم في سوريا والعراق برسم الاتساع، لأنه كان السبب الرئيسي في توجيه المطامع التركية تجاه المنطقة، وكان أيضا الذريعة التي أعادت مصر بوصفها خيارا استراتيجيا للخليج العربي.
لا يمكن أن تنتهي هذه القصة بين المدينتين، وبين الرجلين، أردوغان والسيسي، إلا باستعادة الاستقرار في سوريا والعراق، يبدو ذلك بعيدا جدا، والمتوقع المزيد من التوتر وفصول أخرى عديدة في حالة إعادة ترسيم الخرائط وترتيب الأعراق، بحيث تتسوق الطوائف للبحث عن المساندة والتعاطف بين المدينتين، أما المخرج فيتمثل في أن تنصرف تركيا إلى عمقها الطبيعي والثقافي في آسيا الوسطى، بينما تتفرغ مصر لإعادة العمق الأفريقي الذي أصبحت بدونه منطقة (ترانزيت) للطموحات والنزوات السياسية من المشرق والمغرب. على الرغم من المعلومة المعروفة أن العاصمة التركية هي أنقرة (التي تتوسط الأناضول وترمز للطورانية) وليس استانبول، ولكن الأخيرة هي التي تصلح لأن تستكمل القصة، لأسباب درامية، مع القاهرة، ذلك لاعتبارات الوزن التاريخي والسكاني والثقافي، ولأن استانبول تحتضن «ميدان تقسيم» الذي يتوازى في رمزيته مع «ميدان التحرير» في القاهرة، ولأن أي تحول تاريخي في تركيا يجب تعميده حول نصب الجمهورية في قلب تقسيم.
٭ كاتب أردني
سامح المحاريق
نعم هناك تشابه كبير بين مدينتي اسطمبول والقاهرة
شكرا يا أستاذ سامح على هذا السرد التأريخي
ولا حول ولا قوة الا بالله
أعتقد أن المنافسة التاريخية بين استانبول والقاهرة آخذة بالاتساع، إلا أن الميزة التنافسية الموجودة لدى القاهرة عن نظيرتها التركية، تتمثل في العمق الافريقي -كما ذكر الكاتب- في حين ان الأتراك لا عمق أوروبياً أو آسيوياً لهم، لذا أعتقد أن الفصول القادمة تحمل في طياتها الكثير، خصوصاً مع تراجع دور دمشق وبغداد الذي حد كثيراً في العقود المنصرمة من سطوة الأتراك في المنطقة.
القاهرة أشد فقراً وأفولاً لنجم الفرص والعمالة، واستانبول وجهة عالمية للسياحة والعمل على حد سواء، إلا أن اللعب سيكون على وتر العمق الاستراتيجي، إذا أحسن النظام المصري -أي نظام- استغلاله.
مقال ممتاز، يطرق باباً لن يغلق بسهولة.. شكرا للكاتب المحترم.