1ـ لم أذهب إلى العمل مساء هذا اليوم، أو على الأصح دخلتُ قاعة الدرس وخرجت منها بعدما استأذنني زميل في العمل في أخذ تلميذات وتلاميذ الثالثة إعدادي إلى دار الشباب لحضور حفل توقيع روايته الجديدة. فهمتُ من كلام زميلي إنّ الحضور سوف لن يكون كثيراً لأسباب عدّها هو بأصابعه أمامي، وليس مهمّاً أن أذكرها أنا هنا. وهو الأمر الذي لن يتناسب مع شساعة القاعة وشكلها المستطيل، بل سيُظهر الحفل باهتاً وضئيلا في الصوّر، وهذا هو مربض الحمار.
كنتُ سعيدًا بالتعاون مع زميل العمل في مثل هذه المناسبة، بل وأوصيتُ، في حضرته، تلاميذي بأن يكتبوا تقريراً مفصلاً حول الحفل، على أساس أن نستمع للتقارير المنجزة ونناقشها في حصّة مقبلة. ابتسم الأستاذ وهبط الأدراج متبوعاً بسيلٍ من التلاميذ الذين لاشكّ أنهم سيظهرون في الصوّر كجمهور حقيقي عاشق للأدب، وبمظهر المتلقيّ الرفيع لجنس الرواية بالتحديد. المتلقي الذي يرفع يده ليهشّ ذبابة عابرة قبل أن يعيد اليد فوق ركبته بدون أن يغفل عما يجري في القاعة.
هذه الواقعة، ذكّرتني بأحد ملوك العرب الذي كان على علاقة جيّدة بفرنسا في عهد جاك شيراك، والذي كلما زاره هذا الأخير في مملكته إلا وأعطى الملك تعليمات صارمة لمصوّره الشخصي، بأن يلتقط له صوراً مع ضيفه من مسافة بعيدة وبعدسة أفقيّة كي لا يظهر صاحب التاج قصيراً أمام شيراك الفارع الطول، وهي الصوّر التي تعتدمها صحافة البلد في صفحاتها الأولى. مَن من ملوك الأرض يقبل أن يظهر قزماً وبنصف متر أمام شعبه؟ ومن من الشّعراء والكتاّب يقبل أن يمسك الميكرفون ويقرأ شيئاً من كتابه الجديد في قاعة فارغة يصفّر فيها الهواء بلسانه بدل أن يصفقّ فيها الجمهور بيديه أو قلبه ؟ لا أحد تقريباً.
2
أتابع صفحة صديقي عقّا على الفيسبوك منذ أعوام. وأتفاعل بمحبّة وارفة مع ما يكتبه لدرجة أترك بصمتي بدون أن أقرأ محتوى التدوينة. وأحياناً أرسل له البصمة وأنا في أماكن محرجة، يشجعني على ذلك أنّه يظهر بالصورة في كلّ تدوينة، ما يحملني على استبعاد أن يتحدّث الرّجل بسوءٍ عن نفسه. ففي الوقت الذي كان عقّا ينشط فيسبوكيّا بهذه الطريقة. يكنز الصوّر في هاتفه الذكيّ ويعيد تنزيلها على الحائط الأزرق مرفقة بتدويناتٍ بلا نقاط ولا فواصل، كان أحدهم يتجسّس على صفحته ويرصد تحرّكات صاحبها، إلى أن كتب عقّا تلك الجملة الشهيرة «في الطريق إلى شمال المغرب رفقة العائلة» وهي الجملة التي حرّكت شهيّة الخسّيس في الضفة الأخرى، وظلّ يحوم حول البيت لساعاتٍ طوال كطيرٍ كاسر قبل أن يعود في منتصف الليل بشاحنةٍ كبيرة ويُفرغ أغراض البيت مبقياً على منشفة الباب الخشنة حزينة، وعلى باب البيت موارباً، وهو ما شجّع الجيران ليتّصلوا بالأستاذ عقّا الذي قطع عطلته وحضر في صباح اليوم الموالي ليكتب على صفحته هذه المرّة :
مات المتنبي بسبب بيتٍ شعري،وسُرق بيت عقّا بسبب تدوينة على الفايسبوك.
3
بعتُ هذا الصباح أرضًا فلاحيّة ورثتها عن أبي. وهي مناسبة لا تعوّض لأطبع ثلاثة كتب دفعة واحدةً، ديوانا شعريا ورواية ومجموعة قصصية. أريد أن أرى الفأر والقط والزوبعة في رمشة عين. وانّني أبحث، عبر جريدة «القدس العربي»، عن دار نشر محترمة أدفع لها ضعف ما تطلب وأتنازل لها عن جميع حقوقي المادية. فقط أشترط أن تُخرج كتبي من الفرن في حلّة جميلة وبورقٍ صقيل. وأن تبحث لي عن نقّاد جيّدين يتنافسون على مدحي وإطرائي في جرائد ومجلات سيّارة. أريد أن أرى نفسي شاعراً مبدعاً بقصائد استثنائية، وقاصّا يطوي بذراعه الخشنة خصر مارغريت دوراس بدون أن أفكّر في تقبيلها، وروائياً أكبر من أن تسع له البوكر والجوائز العربيّة.. على الدار أن تتولّى البحث وأنا سأتولى الدفع. السمسار يتعرّف على زميله السمسار بالفطرة والموهبة. والمال يشجّع كثيرين على أن يلتهموا أطعمة جافة بدون أن يفكّروا في شرب الماء. يبحثون عن المال وأنا أبحث عن الشهرة. أين المشكلة؟
4
حماتي العزيزة فتحت صفحة على الفيسبوك هذا المساء بتشجيع من ابنتها التي هي زوجتي، على سبيل حملها على متابعة ما يجري في الفضاء الأزرق، وعلى تغيير حياتها الرتيبة ولو بالتقاط صورة ومشاركتها مع الأصدقاء والأحبّة. وكنتُ أول من يسعد بقبول طلب صداقتها. صداقة امرأة أربعينيّة متفهمة جدّا للحياة المعاصرة. ومتحرّرة بعلامة لا بأس به بتنورة حدّ الركبتين. وقصّة شعر مثل كونداليزا رايس. وابتسامة جانبيّة مثل فرجة باب. لكن رغم كلّ هذا، فانّني ملزم من اليوم فصاعدًا أن أغيّر لغتي. أن أجعلها ليّنة وأدسّ مسحوق المشمش بين سطورها كي تصير حلوةً في فم الحماة قبل أفواهكم. ولا يهم بعد ذلك أن ينتشر ذباب جوّال في محيط الحلاوة. من منكم يستطيع أن يتعرّى كاملاً أمام حماته ويقفز في حوض ماء؟ لا أحد.
5
أجمل أيام الله عندي هو اليوم الذي أسحبُ فيه أجرتي، والأيام الشحيحة التي تليه، حيث أصير عريساً في عين زوجتي التي تغمرني بعناية خاصّة، إلى جانب العناية الإلهية طبعاً. نخرج معاً ونعود معاً. تقف عند رأسي مثل حاجب الغرام وتحكي لي قصصاً جميلة. تقبّلني وأصير أقل توتراً. تنام على ذراعي تاركة شعرها الطويل يهشّ الأشباح عن محيطي. تنفذ أجرتي خلال أسبوع، وتتغيّر زوجتي من حال إلى حال. وأقضي القيلولة في المقهى. أنام وحيدًا في الصالون مثل صرّة ملابس نتئة. أتقلبّ على الجانب الأيمن وعلى الجانب الأيسر، يلفحني البرد كما لو أنّي محمولٌ على ظهر شاحنة، أتشبثّ بوسادة مفشوشة وأصمت. وربّما بكيتُ بدون أن يراني أحد.
6
يجّر الله العباد من آذانهم المتّسخة بضجيج الحياة. ويذهب بهم في مثل هذا الشهر إلى مجرة بعيدة وبأعدادٍ وفيرة غير آبهٍ بدموع أقاربهم وأصدقائهم. دموع غزيرة كلما سقط غصن من شجرة فقيرة ومنخورة. وأخرى مقتضبة حين يتعلق الأمر بفردٍ من عشيرة الأثرياء أو قبيلة البرجوازية الرخوة. وماذا يملك الفقراء غير الدموع والحطام، غير الرومانسيّة وأحلام فقاعات الصابون؟ شخصيأ أهجر غرفتي في هذا الشهر. أنقل أغراضي إلى الصالون حيث أسهر باطمئنانٍ مكفول نسبياً. وأنام على الأريكة ثلاث ساعات أو أربع ساعات على الأكثر، مع حرصي الشديد على الإبقاء على صوت التلفاز مرتفعا، وعلى عيني اليمنى منتبهة. أريد أن أتبيّن ملامح خصمي وأخمش خدود كبريائه خمس دقائق أو ستّ دقائق بدل أن أسلّم له روحي بسهولةٍ كما تسلّم الفتاة الغلبانة جسدها لجماعة من الأوغاد الليليين تحت طائلة التهديد بالأسلحة البيضاء. أحرص، أيضاً، على نظافة جسدي وحلق الزغب النابت في أكثر مناطق جسدي سريّة. لا أريد أن يتوّلى إمام المسجد هذه المهمة القذرة ويشتمني في داخله. أصلاً أنا لا أريد أن أنام في حفرةٍ في هذا الشهر البردان، ولا أتمنّى هذا المصير الأعمى لأيّ مخلوق، وان كنتُ قد فقدتُ هذا اليوم الاثنين واحداً من أعزّ أصدقائي وأكثرهم اطلاعاً على أسراري الشخصية. ولو كان الموت يطلب مشورة من النّاس لاقترحت عليه أن يأخذ أربعة من جيراني الأوفياء، أو أدلّه على طريق القرية ويأخذ عشرة أفراد من عائلتي المعطوبة مقابل أن يترك لي صديقي.
كاتب مغربي
حسن بولهويشات
ربما هذه اول مرة اطالع كتابات الكاتب حسن بولهويشات بقدسنا العربي
–
و ان اكون ” مداحا للقلم ” ان قلت ان سداسية كاتبنا تزخر بفلاشات
–
قصصية ممتعة
–
تحياتي
جمييل جدا ماأبدعت في سرده سيدي…
من قال إن عهد القصة قد ولى . ست قصص من أجمل ما قرأت . رائع أستاذ حسن بولهويشات