لن تخجلَ بعد الآن
كان يعود خجلاً إلى البيت، حين لا يستطيع أن يجلب لزوجته وأطفاله أي شيء يسد أرماقهم.
يمضي سويعات النهار يطالع مع نظرائه وجوه المقبلين إلى مكان تجمعهم في ساحة الطيران، وسط العاصمة بغداد، علّ أحدهم يطلبهم في أعمال بيته مثلاً.
كان أهله يحبطون عندما يعود مبكراً، ويستبشرون عندما يتأخر.
في يوم جديد بعد أيام أخرى من البطالة، تأخر عن العودة، تفاءلت زوجته بأن وجبة الغداء ستكون دسمة. أحدهم اقترب من تجمعهم، كان يرتدي معطفاً، ملامح وجهه خبأتها ابتسامة باردة، مثلما الشمس المشرقة صباح اليوم اختفت خلف غيوم سود.
تكلم معهم مؤشراً بيديه.. أن تجمعوا أكثر:عندي..أعمال..بناء.. كبيرة.. قطع تباطؤه بصرخة وحشية..الله أكبر.. مع حركة سريعة بضغط الحزام الناسف…………
تأخر عنهم كثيراً لا ليعود مبتهجاً رغم فقره حاملاً الخبز والخضار، بل لتهرع عائلته إليه مولولة باكية، وهو يرقد في ثلاجة الموتى، فلن يعود إليهم مبكراً أو متأخراً بعد الآن.
بعد أن نالَ الحرية
بعد عناءٍ كبيرٍ، لا يعتقد أنه آخر عناءاته، حصل على تقاعده، سيتذكر لحظات خروجه من تلك الدائرة العتيدة، كأنما هي لحظات نيل شعب استقلاله، أو مثلما تحليق طير بعد انعتاقه من قفص..
احتفل بنيله حريته من سجن الوظيفة لمدة ثلاثين عاماً، وسينفذ بانسيابية كل ما خططه في رأسه، لما تبقى من سنوات عمره. كان احتفاله قراراً بعبور جسر الشهداء القريب من دائرة التقاعد، مشياً على الأقدام، وهو المصاب بمرض المفاصل المزمن، كي يستنشق ملء رئتيه النسائم العذبة لدجلة، متوقفاً منتصف الجسر، متأملاً مياهه الزرق، الجارية أبداً، فهي كما يقول الفيلسوف اليوناني هيراقليطس» إنك لا تنزل النهر مرتين»، وها مرت سني عمره،عجافا في أغلبها، مدافة بحلاوة لحظات تمضي سريعاً، عزاؤه سجل حياته النظيف وإخلاصه في عمله. عاد للسير الهوينا قائلاً: أسرع لكي تمسك بما تبقى، أديت ما عليك تجاه أسرتك، أولادك وبناتك، بدؤوا يتحملون مسؤولياتهم، ويكونون أسراً جديدة كما بدأت.. ابدأ منذ الآن بتنفيذ مفردات برنامجك الحر. حين انتهى الجسر، عبر إلى الرصيف المحاذي لسوق السراي والمتحف البغدادي، مكملا تداعياته:»نفذ ما خططته..برنامج شتوي..هنا في بغداد، الاسترخاء ولقاء الأصدقاء ومعاودة الشغف بالقراءة»، فتذكر أن يذهب الآن إلى شارع المتنبي، كي يقتني كتباً جديدة، لذا عاد إلى الوراء، متجهاً إلى سوق السراي، كي ينعطف منه إلى شارع الكتب، «أما البرنامج الصيفي..السفر إلى مختلف دول العالم…». لم يكمل ما كان يتمتم به حين حدث انفجارٌ مدوٍ، فحلّق بجسده الضامر إلى الأعلى، أشلاؤه تناثرت.. في الجهات الأربع.
دحرجة
كانت على قدر كبير من الجمال حين تمارس تحديقها في مرايا الآخرين، تصّاعد نجمة خيلائها في سماء طريقها كل يوم بين بيت أهلها وكلية الفنون الجميلة حيث تدرس، فتبارى الرسامون من (شلّة) معجبيها في نيل الحظوة عندها بالتنافس في رسم لوحة تكون هي الأقرب إلى عالمها. أحدهم رسمها طاووساً، يتبعها عشاق ذيليون، وهو آخرهم، كأنه اليائس الأول من نيل قلبها. ثانيهم رسمها متخلفة عنه بخطوات، كأنه مستعد لمواجهة أي منافس له عليها. ثالثهم رسمها وسط (الشلّة) يسيرون معا، هو معهم للدلالة أن لا أحد سيحوز قلبها بمن فيهم هو.
كان رابعهم رسم نفسه.. وأجزاء جسده اختفت بسبب تفجير إرهابي، وحده قلبه تدحرج إليها لتحتضنه بين ذراعيها وتبكي…ففازت اللوحة بقلبها …
ومازال عمل المكنسة مستمراً
يبكر كل صباح بعمله كناساً ضمن مجموعة عمال التنظيف في منطقة بعيدة عن سكناه. يتقن كنس كل ما تقع عليه عيناه، من قاذورات الشارع وتجميعها في المكان المطلوب. ذات يوم، دوّى انفجار شديد ناجم من عبوة ناسفة موضوعة في الطريق المعتاد لعامل النظافة جيئة وذهاباً، سبب قتلى وجرحى في رصيف مكتظ بالمارة، تداعى الناجون إلى إسعاف المصابين ولملمة جثث القتلى..ولكن جمعاً من المارة تجمهروا منشدهين حول مكنسة اختفى صاحبها، واستمرت في تنظيف حافة الشارع بإتقان .
كاتب وشاعر عراقي
باقر صاحب
كنت ساكتب عن الدين والدولة …. وتراجعت الا ارهق صاحبة المقال …
واكتب اليك
… كلّهم قُتلوا … بانفجار
جميل ما خطته اناملك ذ باقر