تعود قصيدة النثر التونسيّة إلى عام 1930، فقد نشر أبوالقاسم الشابي نصّا وسمه بـ»أيّها القلب»، تحت عنوان «الشعر المنثور» في مجلّة «العالم الأدبي». وكان صاحبها زين العابدين السنوسي، قد كتب عام 1928مقالا عن «قصيدة النثر»، في جريدة «النهضة» التونسيّة؛ ثمّ أعاد صياغته في مجلّته هذه (العدد نفسه)، مقترحا مصطلحا بديلا لهذا النمط من الكتابة الشعريّة؛ وهو «النثر الشعري».
ولكنّه سلّم بالمصطلح الذي كان ذائعا وقتها في المشرق، وهو «الشعر المنثور». وهذا موضوع أرجو أن أعود إليه قريبا. على أنّ في البحث عن « أصول هذا النمط والمؤثّرات التي خضع لها؛ رضوخًا لما يسمّيه رولان بارت أسطورة السلالة والانحدار. وربّما فيه اعتراف على النفس، أو هو يعرّي شيئا منها لا يزال عالقا بأذيال اللاهوت والميتافيزيقا، وكلّ بحث عن « الجوهر « و»الأصل»، قد لا يكون أكثر من بحث لاهوتي ميتافيزيقي. والأدب إنّما يُنسب إلى اللغة، وليس إلى الجغرافيا؛ وسواء كان المغاربيّون هم أوّل من تنبّه إلى هذا النمط»الهجين» من الكتابة، أو المشارقة؛ لا يغيّر من حقيقية أدبيّة؛ فالتونسيّون مثلا لم يذع عندهم هذا النمط إلاّ أواخر الستينيات من القرن الماضي، وبدايات السبعينيات، والذين برزوا فيه قلّة قليلة. ومنهم الشاعرة سنية الفرجاني التي تخطّ لنفسها طريقة خاصّة في كتابة قصيدة النثر؛ أساسها لعبة «المفارقة» و»الضديد» (الأوكسيمور) كما في هذين النصّين: «ألبس جسدي» و»أصادق ظلي».
من ينسج هذا الخيط؟ أهي صورة الجسد اللامرئي تثور في مكامنها وتهبّ من رقادها، أم هي يد الذاكرة في حركتها الشاقولية الدائرية؟ لكن ذاكرة من؟ ذاكرة الشاعرة أم ذاكرة القارئ؟
يقول بارت إنّ «النص نسيج من الاقتباسات والإحالات والأصداء تتسرّب من منابع ثقافيّة متعدّدة، لا يمكن ردّها إلى أصولها». ومع ذلك فقد سبقت قراءتها والكاتب لا يمكنه إلاّ أن يقلّد، فعلا هو دوما متقدّم عليه، من دون أن يكون ذلك الفعل أصليّا على الإطلاق… كلّ ما في متناول الكاتب هو أن يزاوج بين الكتابات وأن يدفع بعضها ببعض، من دون أن يستند إلى إحداها. بيْد أنّ هناك نقطة تتجمّع فيها هذه الكتابات المتعدّدة، ليست هي المؤلف كما دأبنا على القول؛ وإنّما هي القارئ، وهو الفضاء الذي ترتسم فيه كل الاقتباسات التي تتألّف منها الكتابة، من دون أن يضيع أيّ منها ويصيبه التلف.
يستلزم تفكيك هاتين القصيدتين اكتشاف بنيتهما غير المتجانسة، ثم الاستقرار فيها للعثور على مؤثّرات أو تناقضات داخليّة؛ يُقرأ النصّان في ضوئها، ويفكّكان نفسيهما بنفسيهما. وأوّل مظهر لهذه البنية غير المتجانسة يبرز في عنوان القصيدة؛ فالمفردات التي يضمّها العنوان «ألبس جسدي» أو «أصادق ظلي»، لا تتوافر على أيّ تناسق أو تماثل في ما بينها لا في مستوى التركيب ولا في مستوى الدلالة، بل هي على العكس تنزع إلى التنافر والتفكّك. وليس بميسور التركيب بالإضافة أن يلحم كسورها أو يسدّ فجواتها، فليس الملك ولا التحقيق ولا التعيين ولا التعريف؛ بلغة النحويّين، من معانيه في هذا السياق؛ اذ هو لا يقع بين ذاتين بحيث تملك الثانية الأولى حقيقة، نحو: المرآة للمرأة أو المرآة للرجل .
إنّما معناه شبه الملك، فالجسد لا يملك هذه المرأة التي تصطنعها له الشاعرة؛ وإنما هي من خصوصيّاته. كما أنّ في تخصيص الجسد بوصفه مملوكا ما يجعل من العنوان تركيبة لغوية تعارض نفسها من الداخل، فالمرأة كمن تعاين جسدها في مِرآة غير محدّدة؛ ولا يمكن إلاّ أن تكون كذلك، في هذا النص .حتى لو دخلت عليها «أل العهديّة « فإنّها لن تزيد في تعريفها، ولن تغيّر من تنكيرها. ذلك أنّ نسبة المرآة إلى جسد لا يمكن أن يحيل إلى علاقة بين شيئين ذاتيين، معهودة في الذهن؛ فالمرأة لا تنسب في المستوى الحرفي إلى جسد أو روح، وإنّما تنسب إلى الإنسان من حيث هو كائن واحد لا فصل بين جسده وروحه. وكذلك شأن العشق فهو صفة تلزم الكائن لا الجسد. لكن بما أنّ النسبة قائمة في المستوى النحوي (جسدي) فلا يمكن أن يكون المقصود المرآة أيّا كان نوعها، ولا المرآة من حيث هي جسم يعكس الأجساد والأجسام والظلال، أي المرئياّت التي تمتصّ الجزء الأكبر من الضوء الواقع عليها، وتلفظ البقيّة في صورة الظل. فهذه مرآة ضديّة تجمع بين التجسيم والتجريد، بين الإفصاح والكتمان، بين المرئي واللامرئي.
تقول الشاعرة:
أصادق ظلي وأدعوه لجلسة شاي وحدنا. لبست لألقاه تنورة حريرا وقميصا من الدنتال الفاخر. انتظرته وفي يدي عود عنبر وكتاب عن شعوب الأنكا. تأخّر في الحضور. تركت الكتاب للنادل، وعود العنبر لصاحب المقهى.
قبل أن أوقف تاكسي سحبني من الخلف. قبّلني معتذرا. أعادني لنفس الطاولة، وأهداني صورة لنا معا تعود لعشرين عاما مقبلة.
أو: الأطفال نيام.. أنزع جسدي..أعيده تحت الغطاء
وأخرج واضحة خفيفة.. دافئة
أو:
الفجر جُرف الليل القديم وحافة الصباح أنشغل بوصفه؛ وأترك الطبيعة لخيالها الضيّق. أحاول الكتابة؛ لا أجد يدي. أعود للغرفة، مندسّة في ذبابة. أسحب يدي من جسدي أعرّج الباب بلطف، وأهرب.
إنها مرآة المجاز والتورية التي تلتقط الجسد في تحوّلاته وتناسخاته من عنصر إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، في دورات فيضيّة، يتخذ فيها الجسد صورة تحوّل هابط حينا، وصورة تحوّل صاعد حينا آخر، فينسلخ من قميصه اللحمي إلى عالم النور، والصفاء والتطهّر. فهو يتوهّج وينتفض ويتلاشى كالظلّ، ثم يلتمّ ليدخل بعد عملية التطهّر في جسم من الأجسام حيث يولد «كلّ يوم» ولادة جديدة، في هياكل مختلفة ومراتب متعاقبة.
قوارب صيد صغيرة
وفقيرة
ترتّب في هدوء موسيقى الملح الخام
للملح رنينه في شواطئ الجزر
ولي رنينٌ
يسري بك ويمتدّ
طحالب تقيم منذ ألف عام
لم ينتبه لها صيّاد يعود بصندوق محار.
هذه المرآة المجازية لا تلتقط من الجسد صورته الشمسيّة وهيئته النورانيّة المجرّدة المفارقة عن المادّة، فحسب، وإنّما تلتقط أيضا صورته السمعيّة – البصريّة. فهذا الجسد يستحضر في تحوّله الدوري، صور المعيش مقرونة بصورته في مرآة الطفولة، حيث تنعكس الأشياء غائمة غامضة ممزوجة بذاته، وتتعاضد عين الجسد وعين الخيال وتتنافذان.
إنّ الجسد في هذه الصورة ليس سوى الذات تتلمس مرتبكة طريقها إلى وعي جسدها الشخصي، وتعرّفه وتميّزه مغايرا أو مماثلا لأجساد الآخرين. هذا الجسد الذي يضيع ويقف حائرا مرتبكا أمام صورته الحسيّة الحركيّة، ليس سوى الجسد المتخيّل. فالطفل يسلّم أمام المرآة بأنّ لجسده صورتين أصليتين ترتدّان إلى ذات واحدة: صورته الزئبقيّة الساكنة في فراغ المرآة المسطّح، وصورته الواقعيّة التي تشغل حيّزا من المكان، من حيث هو امتداد للأشياء، ومن هنا تنشأ حيرة الشاعرة، ويتحفّز خيالها؛ فهي في هاتين القصيدتين، إزاء صورتين متفارقتين متآخذتين في آن: صورة حسيّة بصريّة لكنها غير واقعية، وصورة واقعية، لكنّها تعجز عن إخضاعها للمعرفة الحسيّة. وهي تسارع إلى الأولى تحفزها رغبة عجيبة إلى الاتحاد بها، و كأنّها «أناها» المثالية، بتعبير جاك لاكان. إلاّ أنّها، تصطدم بعجزها عن امتلاكها فإذا هي تنقل ناظريها بالتناوب من صورتها في المرآة إلى صورتها ذاتها، لترى بعين الخيال «لآلئة أكثر ومادة أقلّ ممّا تراه المرآة، فالمرآة تحملق بثبات ومجابهة، بينما البصيرة تمرق وتلتفّ، وتحلق كشيء حيّ». ألا يمكن القول إنّ هذا الجسد اللامرئي الذي تلتقطه الشاعرة في مرآتها ليس إلاّ الجسد القرين الشبيه بجسد «نرسيس» المرسوم في زجاج الماء ، فموضوع عشقه ليس إلاّ هو نفسه. و»نرسيس» لم يحتضن سوى السراب، وكذلك الشاعرة لم تلتقط في مرآتها سوى الخيال، ولكن لماذا لا يكون هذا الجسد اللامرئي جسد الحلم أيضا؟ فهو ينسلخ من صاحبته؛ فيذوب وينحلّ في فضاء من الصور المتباعدة زمانا ومكانا مثلما ينسلخ الإنسان من جسده في الحلم، فلا سلطان إلا سلطان الجسد منسلاّ من نقطة ما في غياهب اللاشعور، متحرّرا من قيود الظاهر والعادة؟
كاتب وناقد تونسي
منصف الوهايبي
تختلف قصيدة النثر عن الخاطرة التي ذاعت كتابتها، وبينهما فروق وإن كان في هذه الأخيرة شيء من الوزن. لكنّ قصيدة النثر مؤصّلة في مدارسها الأدبيّة الملتزمة و تجربتها الحياتيّة و اللغويّة أكثر منها وزنا و قافية. ما يشد الانتباه في قصيدة النثر أنّها ممتلئة بكل شيء، بالانسجام والرنين والفوضى و القبول و الرفض وما كان من المتقابلات وأكثر من ذلك امتلاؤها بالعمق و المدى…
لم يشر كاتب المقال الأستاذ المنصف لوهايبي الى أمرين:
1. تجربة غير العمودي والحر- الطاهر الهمامي وزملائه.1969
2. كتاب المهدي عثمان: قصيدة النثر التونسية 2015 الذي تناول فيه 30 شاعر قصيدة نثر وقدم له الشاعر الفلسطيني عزالدين المناصرة.
انا باحثة مرحلة دكتوراه هل بامكاني كتابة مقالات في جريدتكم وشكرا