قلوب خشبية

تعود معرفتي بالقاص والروائي السوداني عبد الغني كرم الله، إلى تسعينيات القرن الماضي، أيام أن كنت في مرحلة جيدة من البدايات، أصدرت فيها ثلاثة كتب قلت إنها روايات، لكن همها كان منصبا على الشعر. كان ذلك في مدينة الدوحة حيث أقيم، وكان هو يقيم أيضاً، ويعمل في إدارة حكومية، نلتقي بقصد وبلا قصد أحيانا، حين أجده ماشيا في الطريق، أو جالسا في مقهى في سوق واقف، أو يرزح كتفه تحت ثقل تلك الحقيبة التي تحوي نصوصا ناضجة، وأخرى في طريقها للنضوج، وأيضا فيها كتب ودوريات ثقافية تصدر هنا وهناك.
كنا نتبادل الحكي والأفكار، ويطلعني على قصصه القصيرة الغريبة المؤثرة التي كان يكتبها بشغف، ولا يهتم بنشرها كثيراً، قصص عن الحارات الضيقة في مدينة أمدرمان، والأشجار الخضراء المتشابكة، في أي مكان، والأحذية التي تقفز من أماكنها على فاترينات العرض، وتنتقل من قدم إلى قدم، وأذكر تلك القصة عن الكلب السعران الذي طارد مدرساً أو مديراً لمدرسة، لا أذكر جيداً، وتركه يقضي يومه على غصن شجرة، وأظن تلك القصص كانت هي نواة كتابه القصصي الجميل «آلام ظهر حادة» الذي صدر في أواخر التسعينيات، عن المؤسسة العربية للنشر في بيروت، وعمده واحدا من القصاصين الجدد الذين سيمتلئ بنتاجهم المشهد الأدبي بعد ذلك، وليستعير هو هذا العنوان الجاذب للمجموعة القصصية، في رواية قصيرة لم أقرأها حقيقة، لكنني أستطيع تخيل أجوائها.
قصص عبد الغني، تلك التي كتبها للكبار، تمتاز ببساطة الحكي، لا غموض ولا فوازير ولا تشنج للغة يحتاج إلى ذهن يفكه، هي قصص تنبع من القارئ نفسه وتصب فيه، قصص ربما يحس القارئ بأنه شارك الكاتب في صياغتها، وفي الوقت نفسه تمنحه ما تجود به من إبهار، يظل مترسباً في ذهنه، وحين كتب قصصاً قصيرة للأطفال بعد ذلك، كان يكتب أيضاً لفئة، هضم أفكارها جيداً، ومنحها زاداً جيداً للمستقبل القرائي الذي ينتظرها. ولأننا نعرف جيدا أن الكتابة للأطفال، مأزق كبير، ومعظــــم من يكتبون إبداعا لا يقدرون عليها، أو يتنصلون منها، فلذلك نجد أنفسنا نعتز بأولئك الذين يكتبون بمهارة أمثال عبد الغني، وسماح أبوبكر عزت، وناهد الشوا، التي خصصت دار نشر لكتب الأطفال ذات الخيال الجيد، والأفق المتسع.
في روايته «القلب الخشبي» الصادرة منذ مدة قصيرة عن دار نشر مداد الإماراتية، يفاجئنا عبد الغني برواية قصة توجد في بيوتنا كلنا، ولكن قد لا ينتبه إليها أحد إلا نادرا، أو ربما ينتبه لكنه يعجز عن تلك الوقفات التأملية في الذاكرة الطفلة لاستعادتها، إنها قصة دولاب كبير من الخشب موضوع في حجرة النوم الرئيسية في بلد لا توجد فيه خصوصية كبيرة، لكن لا بد من مكان لدس الأسرار، توجد في الدولاب ضلفة للأم وضلفة للأب ومساحات كبيرة من العطف والحنان، تسع أشياء الصغار والكبار كلها، هناك حيث يمكنك أن تختبئ في أي وقت، إن كان ثمة مأزق يطاردك، أو تشارك في لعبة الاختباء المعروفة في عالم الصغار، أن تعثر على الحلوى المخبأة دائماً من عبث الصغار، وتأكلها كلها، وتقسم أمام غضب الأم، أنك لم ترها على الإطلاق، أن تعثر على رائحة أبيك الراحل منذ زمن طويل، وثيابه القديمة، ووثائق سفره أو امتلاكه لأشياء أيضاً يدسها عن الناس. وممكن جدا أن تعثر على فأر محنط لا تعرف من وضعه هناك، أو صورة لامرأة مليحة، لا تمت لأسرتك بصلة، هكذا.
لقد تحولت إذن خزانة من الخشب العادي الرخيص، مصنوعة عند نجار سطحي، وغير مبتكر، إلى مستودع أسرار كبير، وتفاصيل لا يكتبها إلا حكاء ماهر، إنها رواية لكنها كتبت بعين القصة القصيرة، وقصة قصيرة، كتبت بدمع الرواية.
الدولاب الكنز، والدولاب المأساة والدولاب الذي سيبكي الطفل عند فراقه، بسبب الاضطرار. ورأيي أن عبد الغني من القلائل الذين يستطيعون التنقل بين أزمان مختلفة، ويعودون إلى زمنهم، يستطيع أن يكون الطفل الصغير فجأة، والناضج، وأيضاً الكهل حين يروي عن جد أو جدة (حبوبة)، هو يستخدم مفرداتنا المحلية حين يأتي ذكر الجدة، لكأنما هي هويتنا بالفعل، الذي عاش في زمن الجدات القديمات، راويات الحكايات قبل النوم، ومانحات الملاليم التي تكفي لجلب الحلوى، يدرك بالفعل أن الجدة هي الوطن الذي يفتقده الكثيرون من أجيال الزمن الحاضر.
شخصياً أحب قصص عبد الغني كرم الله، وأحب «حوامته» في التراث السوداني، من دون أن يرفع ثيابه الإبداعية، هو يتركها تبتل بوحل تراثنا وصفائه، ويمنحنا تلك القصص الجميلة.
وأظنني تذكرت الدولاب الخشبي، أو القلب الخشبي، حين زرت مدينتي وبيتنا القديم هذه السنة، لقد نبشت في تلك الخزانة المتربة التي بقيت زمنا طويلا بأسرارها واستخرجت منها قصائد لي وقصصا مبتورة، وجملا ناقصة وأسئلة، وعملات تغيرت بمرور الزمن، وكل البدايات الطفلة التي ظلت طفلة لم تنضج وتركتها هناك، وكانت الصور أيضا ذات طعم كبير، صور أهلي وهم شباب، وصور فتيات كن جميلات ولا أستطيع أن أعرف من كن، والأهم من ذلك، تلك الرائحة الأخاذة للحكايات التي كانت تنبعث كلما نبشت في قلب بيتنا الخشبي أكثر.

٭ كاتب سوداني

قلوب خشبية

أمير تاج السر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد همزان. امريكا:

    أدب الاطفال لا يكتبه الا من عرف أسرار الطفولة ..وعبدالغني غني في مساره الإبداعي للطفل ..كذلك التمسنا..ومن الأدب والكتاب السودانيين اغترفنا الحنين في الأدب ..وتاج السر كذلك سر من أسراره..ومحبة حافلة كما قريبه الكبير صالح الطيب والجميل العميق

إشترك في قائمتنا البريدية