تونس – «القدس العربي»: قال قيس سعيّد الخبير الدستوري والمحلل السياسي إن الدستور التونسي يعيش «أيلولا أسود» نتيجة الخروقات الكبيرة التي يتضمنها قانون «المصالحة الإدارية»، وأكد أن الدستور تم وضعه على مقاس الطبقة السياسية التي جاءت بعد الثورة، مشيرا إلى أن من يطالبون اليوم بتعديله «يحنّون» إلى الوضع الذي كان سائدا قبل الثورة.
وتحدث أيضا عن وجود «نظام خفي» يحكم البلاد بشكل غير مباشر و «يحدد الدوائر التي يدور فيها النظام الظاهر والمؤسسات التي وضعها الدستور»، معتبرا أن هيئة الانتخابات وغيرها من الهيئات الدستوية المستقلة لا تتمتع بالاستقلالية. كما اعتبر أن الانتخابات البلدية ستفضي إلى انتخاب هيئات لا مركزية تشكل «امتدادا مقنّعا» للحكم المركزي.
وقال سعيد في حوار خاص مع «القدس العربي»: «من بين الأطوار الغريبة التي شهدها قانون العفو الذي يُوصف بأنه قانون المصالحة هو أن رئيس الجمهورية تقدم بمشروع أول في 20 تموز/يوليو 2015 تحت عنوان «المصالحة في المجال الاقتصادي والإداري والمالي»، وجاءت ردود الفعل عنيفة في تلك الفترة وبقي المشروع سنتين تقريبا على رفوف البرلمان، وتغير لاحقا إلى قانون المصالحة في المجال الإداري، بل إن رئيس الجمهورية صرح في حوار تلفزي بأن المشروع الذي تمت المصادقة عليه ليس هو الذي بادر بتقديمه، وكان هذا يكفي للهيئة المُكلفة بمراقبة دستورية مشروعات القوانين كي تُعلن أنه غير دستوري لهذا السبب فقط، خاصة وأنها قالت عند نظرها بالمشروع المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء أنه لا يجوز للجنة البرلمانية ذات النظر أن تغيّر في المشروع الذي تتولى النظر فيه، هذا فضلا عن عديد الإخلالات الأخرى».
وأضاف «بعد المصادقة على هذا المشروع وملازمة هيئة مراقبة دستورية مشروعات القوانين الصمت تجاه الطعون التي رُفعت إليها، كان بعضهم ينتظر من رئيس الجمهورية أن يلجأ إلى رفض الختم أو حق الفيتو (الذي يمكن أن يلجأ له الرئيس لمعارضة أحد القوانين)، ولكن من استمات في الدفاع عن هذا المشروع لا يمكن أن يُنتظر منه أن يرده (للبرلمان) لقراءة جديدة، فهو (رئيس الجمهورية) فيه الخصام وهو الخصم والحكم في الوقت نفسه (كما يقول المتنبي) فكيف يمكن أن يلجأ إلى حق الفيتو؟».
واعتبر، في السياق، أن الخروقات القانونية الكثيرة التي يتضمنها قانون «المصالحة الإدارية» وظروف المصادقة عليه تشكل «أيلولا أسود» (نسبة إلى الصدام بين الحكومة الأردنية ومنظمات فلسطينية عام 1970) للدستور التونسي.
وأضاف «المجلس (البرلمان) اجتمع في دورة استثنائية كما قيل، في حين أن البلاد تعيش في ظل حالة الطوارئ، وما دامت تعيش في ظل تدابير استثنائية (بقطع النظر عن النظام القانوني لهذه التدابير)، فإن المجلس النيابي – كما ينص على ذلك الفصل الثمانون من الدستور- يُعتبر في حالة انعقاد دائم، فكيف تتم الدعوة إلى الانعقاد في حين أن المجلس منعقد بحكم صريح وارد في نص الدستور؟، يعني كمن يدعو الجالس إلى الجلوس»
وتابع «من ناحية أخرى، فإن المبادرة (قانون المصالحة الإدارية) التي صادق عليها المجلس لا يُعرف مصدرها على وجه التحديد، فمن الذي بادر بتقديم المشروع الجديد المختلف عن المشروع الذي تقدم به رئيس الجمهورية في 2015؟ ثم هذا النص الذي تمت المصادقة عليه وختمه، أحدث هيئة قضائية استثنائية، في حين أن الفصل 110 من الدستور يمنع صراحة إحداث محاكم استثنائية، كما يمنع أيضا سن إجراءات استثنائية من شأنها المساس بمبادئ المحاكمة العادلة، ويترتب عن هذا الخرق خرق آخر هو أن الدستور ينص في فصله 108، على أن القانون (الدستور) يضمن التقاضي على درجتين، في حين أن القانون الذي تم ختمه نص على أنه لا يمكن الطعن بأي وجه من الوجوه في قرارات الهيئة القضائية الاستثنائية التي أحدثها».
ويطالب عدد كبير من السياسيين مؤخرا بتعديل الدستور لتجاوز بعض النقائص التي أكدتها الممارسة السياسية، فضلا عن دعوة بعضهم إلى العودة لنظام الحكم الرئاسي على اعتبار «الخلل» الذي تسبب فيه نام الحكم شبه البرلماني الحالي.
وعلّق سعيد على ذلك بقوله «للأسف، في جميع البلاد العربية توضع نصوص الدساتير على المقاس دائما، بناء على التوازنات الموجودة عند وضعها، فبعد انتخابات 2014 في تونس تغيّر الجسد (السياسي) وبدأ التفكير في إدخال رتق وتعديل على هذا الرداء الدستوري حتى يكون ملائما للجسد الجديد، فالقضية لا تتعلق بفراغ أو بأخطاء في نص الدستور (علما أنه لا يوجد نص دستوري يخلو من النقائص)، ولكن القضية أعمق بكثير فهي في الفكر السياسي السائد في تونس وفي العديد من البلدان العربية الأخرى، عموما يمكن إدخال تعديلات على الدستور كمسائل تقنية ولكن هم (الداعون لتعديل الدستور) لا يهتمون بالمسائل التقنية بل كيف يعود مركز الثقل داخل السلطة إلى قصر قرطاج، مع العلم أن الذين يتحدثون بهذا الشكل يعاودهم الحنين إلى الماضي إلى نفس الوضع الذي كان سائدا لمدة عقود».
وأضاف «من ناحية أخرى، فإن تونس تعيش حاليا في ظل نظامين، نظام ظاهر وآخر خفي، فالظاهر يتحرك في الدائرة التي يحددها له النظام الخفي الذي يتحكم في كل شيء فهو الذي يحدد الدوائر التي تتحرك فيه المؤسسات التي وضعها الدستور، وهو صاحب القرار النهائي وهو الذي يحسم في كل المسائل المصيرية، فهناك حكومة يفترض أنها مستقلة عن رئيس الدولة وهناك مؤسسات دستورية كهيئة الانتخابات وغيرها، تتحرك جميعها في الدوائر التي يحددها هذا النظام الخفي، لا تلك التي يحددها الدستور أو القانون بوجه عام».
وكان البرلمان التونسي فشل للمرة الرابعة في انتخاب رئيس جديد لهيئة الانتخابات، حيث لم يتمكن المرشحان لهذا المنصب على العدد المطلوب من الأصوات (109)، وهو ما دعا بعضهم لمطالبة الأحزاب بتجاوز خلافاتها لحسم هذا الأمر.
وقال سعيد «هذه الهيئة التي توصف بأنها مستقلة، يحاول كل طرف من الأطراف الفاعلة داخل البرلمان أن يكون له موقع فيها ودور فاعل في اتخاذ القرار داخلها، وهذا دليل على أن استقلاليتها محدودة وهي ضمن في الإطار الذي تحدده الأطراف السياسية الفاعلة. قد يتجاوز البرلمان التونسي اليوم مسألة اختيار رئيس الهيئة في عملية برلمانية قادمة، ولكن الآثار التي ستترتب على هذه الوضعية مستقبلا ستطال التشكيك في أي عمل نقوم به هذه الهيئة وأي نتائج تتولى الإعلان عنها (في إشارة إلى الانتخابات البلدية المقبلة)».
وحول التأخير المستمر في موعد الانتخابات البلدية والحديث عن تخوّف بعضهم من الحكم المركزي، تساءل سعيد «هل هذه الانتخابات ستؤدي إلى نظام لا مركزي حقيقي؟ وهل هذه الجماعات المحلية التي سيتم إنشاؤها، بناء على الباب السابع من الدستور، ستكون بالفعل مستقلة ومُعبّرة عن إرادة المواطنين المعنيين؟».
وأجاب بقوله «سيتم استخدام طريقة الاقتراع نفسها التي تم اعتمادها لاختيار أعضاء المجلس النيابي وهي طريقة الاقتراع على القائمات مع اعتماد التمثيل النسبي وأكبر البقايا، وهذه الطريقة ستؤدي إلى الانحراف بالوكالة المفترضة بين النائب والناخب، فالنائب سواء في المستوى المحلي أو المركزي يشعر بأنه مدين في انتخابه لا لمن انتخبه ولكن لمن رشحه في القائمة الانتخابية ولمن وضعه على رأس هذه القائمة أو في المراتب الأولى، ولا أدل على هذا الانحراف من هذا الظعن والترحال الذي يشهده المجلس النيابي كل أسبوع تقريبا من كتلة إلى أخرى، فليس هناك شعور بالمسؤولية أمام الناخبين على الإطلاق».
وأضاف «سوف تكون الهيئات المنتخبة في المستوى المحلي صورة مصغرة من قصر باردو (البرلمان)، وسيشعر المنتخبون أيضا بهذه الطريقة بأنهم مدينون في انتخابهم لمن رشحهم لا لمن انتخبهم، أي أنها في الظاهر لا مركزية ولكنها في الواقع هي امتداد مقنع للمركزية».
حسن سلمان: