«أعمال كاتب ياسين (1929 ـ 1989) هي أشبه بشجرة ما تنفكّ تنمو؛ وهي تستنبتُ فروعا في كلّ الاتّجاهات. وبإمكانك أن تأخذ فرعا من إحدى مسرحيّاته، وفرعا من غيرها، وهذا يصنع أيضا مسرحيّة أخرى». بهذه العبارة وهي للكاتب الفرنسي جون ــ ماري سارو؛ يفتتح الكاتب التونسي الراحل الطيّب السبوعي، عمله النقدي الإبداعي « امرأة كاتب ياسين المتوحّشة» 1985
كان الطيّب وهو صديق لي، اختلسه الموت؛ ولم يُمتّع بشبابه، قد أهداني هذا الكتاب، في أوّل زيارة له إلى تونس قادما من فرنسا التي كان قد استقرّ بها. وأذكر أنّني وعدته بأن أنقل الكتاب إلى العربيّة، خاصّة أنّه يحوي نصوصا لكاتب ياسين، غير منشورة. ثمّ أخذتني الحياة، وعرض لي ما يعرض للناس من بدَوات الزمن، ونسيت هذا الكتاب في زحمة كتب كثيرة مكدّسة في قبو في البيت، حتى إذا عدت هذا الصيف، أنفض الغبار عنها، عثرت على الكتاب. أعدت قراءته، وكأنّني أكتشفه للمرّة الأولى. قلت بيني وبيني: كيف أقدّم هذا الكتاب الممتع لقرّاء «القدس العربي»؟ وهذا كتاب يُقرأ ويتعذّر تلخيصه. واستقرّ رأيي على أن أنقل إلى العربيّة جزءا من المقدّمة التي خصّ بها كاتب ياسين صديقه التونسي الطيّب السبوعي؛ وهي تقع في حوالي 12 صفحة. يقول كاتب ياسين في هذه المقدّمة الموسومة بـ»بحث الطيّب السبوعي أو كيف يغدو القارئ كاتبا»، وبفرنسيّته السلسة؛ وفيها كثير من ماء الشعر: «يجيء هذا الكتاب في أوانه، سواء بالنسبة إلى القارئ أو بالنسبة إليّ أنا، وقد بدأت أتهيّأ؛ بعد انقطاع طويل، لاستئناف مهنة الكتابة. لقد قضيّت 12 عاما في المنفى، قبل أن أعود إلى الجزائر. ومنذ 14 عاما وأنا أدير فرقة تنشّط اليوم المسرح المحلّي في سيدي بلعبّاس. على أنّ تلخيص الرحلة على هذا النحو؛ يلوح في غاية البساطة، إذ ينبغي أن نعيشها بالتمام والكمال، وأن نتمثّلها في عمل، ونعبر من لغة إلى أخرى؛ في قفزة موت مزدوجة.
ولا بدّ أيضا من أن نفتح للقارئ منفذا إلى هذا العمل. وهذا ما يحاوله الطيّب السبوعي، بأريحيّته ولطفه؛ كما يفعل أيّ تونسيّ، عندما يتعلّق الأمر بالجزائر. قرأت هذا الكتاب مرّتين. وفي كلّ قراءة، كنت أجدني؛ كما لو أنّني أجوس غابة الأحلام، في دروب لا تفضي إلى أيّ مكان. أستشعر هذا التيه في أثري، كلّما أوغلت في الطريق المسدود [الردْبُ] بين المونولوج الذي يتلاحق بالفرنسيّة، وإكراهات المسرح الراهن، بالعربيّة المحكية ولغة تمازيرت. هذا هو طريق مولدي المسدودُ، حيث أقيم. إنّ المسرحيّة المدروسة هنا، كانت قد صِيغت في فرنسا وإيطاليا؛ في ظروف من الفوضى والاضطراب. كنت أعيش في خطر وخوف من الغد، منتقلا باستمرار، من مسكن إلى آخر خفية. وكنت كلّما سنحت فرصة الكتابة، أجدني أتوقّف لسبب أو لآخر؛ مضطرّا إلى أن أحزم أمتعتي، وأقطع حبل إلهامي. وكان لهذه الإخفاقات المتتالية، آثار مؤسفة. عام 1959، نشرتُ «دائرة الانتقام»، وكانت الحرب في الجزائر تأتي على الأخضر واليابس. كان ينبغي أن أنشر هذا بأقصى ما يمكن من السرعة، في حين أنّ الفنّ يستلزم فسحة من الوقت؛ وكان عليّ أن أنتج «من أجل القضيّة النبيلة»؛ وهو كتاب غير مستكمل.
أمّا المسرحيّات التي تكوّن هذه الثلاثيّة [الثلاثيّة في اليونان قديما هي مجموع ثلاث مآسٍ يقدّمها المتنافسون في المباريات المسرحيّة. وهي أيضا سلسلة من ثلاثة أعمال فنيّة ذات موضوع متتابع] وهي «دائرة الانتقام»، فلم تكن محكمة الربط؛ الأمر الذي أضلّ الممثّل والمخرج ألان أوليفيي؛ عندما حاول إخراج «ذُرار ذكاء». وفي خاتمة هذه المسرحيّة، كنت؛ من أجل الانتقال من الكوميديا إلى هذه التراجيديا «الاسلاف يزدادون ضراوة»، قد كتبتُ مشاهد لا يمكن تسويغها إلاّ إذا قُدّمت الثلاثيّة كلّها. و«ذُرار ذكاء» لا يمكن لها معزولة، أن تقود نهايتها إلى هذا الانتقال. كنت في موسكو، عندما علمت عن طريق الصحافة الفرنسيّة؛ بأنّ المسرحيّة ستقدّم في باريس، في مسرح»لايبي دو بوا»[مسرح السيف الخشبي]. وصلت في الإبّان، عند العرض الأوّل. وأدركت توّا، أنّ هذه النهاية لم تكن موفّقة.
وكتبت بمنتهى السرعة، خاتمة أخرى؛ وحالفنا التوفيق فقد عُرضت المسرحيّة 45 مرّة. كان عليّ أن أصوّب الخطأ في الطبعة الموالية لـ»دائرة الانتقام»؛ ولكنّ حرب فيتنام كانت قد استغرقت كلّ وقتي طوال أعوام. كنت أعيش هذه الحرب البعيدة التي نشبت قبل معركة الجزائر، بوله كبير. كانت انتصارات فيتنام الأولى قد ألهمتني قصائد ومشاهد مسرحيّة كثيرة. وقد حالفني الحظ بزيارة فيتنام مرّتين عاميْ 1967 و1970.
وخلال إقامتي الثانيّة، جمعت في شهر واحد؛ على وقع قنابل نيكسون المنهمرة، وثائق مثيرة للغاية. ولكن لم يكن بحوزتي المال الكافي، لحمل 30 كيلوغراما من الوثائق في الطائرة التي أقلّتني؛ وأنا أغادر هانوي عن طريق بكين وموسكو. وكان الحلّ الوحيد هو أن أشحنها في القطار. غير أنّ النزاع الصيني السوفييتي تسبّب في حجز الحقيبة عند الحدود الصينيّة، فيما كنت أنتظرها في موسكو. ولم أستلمها إلاّ في باريس بعد ستّة أشهر. الحرب لا تنتظر. والمسرح في مثل هذه الظروف، يغدو سلاحا من أجل حياة شعب مشطور، خانه أخواه الكبيران وكلّ منهما يواجه الآخر، في حين كان هو يجابه وحيدا قوّة الولايات الأمريكيّة المتّحدة الساحقة. وإجمالا، كان لابدّ من ثلاث سنوات، لكي اسلّم ناشري «الرجل ذو النعل المطّاطي». وفضلا عن ذلك، كان لابدّ أيضا من وقت لقراءة الكتب والوثائق؛ واستيعابها؛ فيما أنا بصدد الكتابة.
تلك هي إكراهات مسرح سياسي ملائم لواقع الحال. فنحن نعمل باهتياج وانفعال، تحت وطأة الوسواس من أن نصل متأخرين، في حين أنّ عملا فنّيّا يحتاج إلى أن ينضج بهدوء؛ حسب مقتضياته. ذاك هو تناقضي الرئيسُ الذي كان، ومايزال. فتسارُع ُ حوادث التاريخ، وتراكم وثائق من كلّ نوع، توفّر للباحث مادّة غنيّة جدّا، يستطيع تماما أن ينفذ إليها؛ ولكن من دون أن يضفي عليها الهيئات التي ينشُدها. كان الأمر كذلك بالنسبة إلى «المرأة المتوحّشة»، وقد أخرجها في باريس بعد الاستقلال، جون ماري سارو؛ وهو الذي أخرج أيضا في بروكسيل «الجثّة المطوّقة»، في ظروف شبه سرّيّة. لأقل إنّني في ما يخصّ المسرح، أدين بكلّ شيء لسارو. فعندما التقيته، كنت قد قرأت وشاهدت بضع مسرحيّات؛ وكنت وقتها قد اكتشفت «أشيل». لقد كانت تجربتي المسرحيّة لا قيمة لها، بالفعل.. ومع سارو، تعلّمت أنّ المسرح ليس بالأمر الصعب؛ ولكنّنا نستطيع أيضا، خاصّة أن نفعل كلّ شيء في المسرح. كنت أحضر التمارين المسرحيّة على «المرأة المتوحّشة» [قبل تقديمها للجمهور]. كنت أتملّاه وهو يوجّه الممثّلين، وكثيرا ما جمعتنا جلسات نقاش طويلة. لقد أحسست أنّني فُهمتُ أكثر ممّا كنت أرجو. وهذا الشعور هو نفسه الذي يخامرني، إزاء كتاب الطيّب. هو أيضا أخ. الأخ الصغير الذي كان ينقصني، وهو مجتهد، بل يبذل جهدا مضنيا، فقد استغرقت منه هذه الدراسة سبع سنوات من العمل. قال لي مرّة: «إنّه لأمر حسن أن يركب أحدهم سيّارة، ويعرف كيف يقودها؛ إلاّ إذا تعطّلت. في حين أنّ الميكانيكي يستطيع دائما أن يفكّك محرّكا، وأن يعيد تركيبه. فهكذا أرى عملي.
والأمر يتعلّق بأن نتعلّم كيف نغوص في أثر فنّيّ، بدل أن نقتصر على ظاهره…» مدهشة حقّا هذه الصفحات من قراءات مغاربيّ، نحسّ فيها؛ وهي المكتوبة بالفرنسيّة، طعم العربيّة اللذيذ؛ تلك التي يتكلّمها التونسيّون. عندما قرأ عليّ الطيّب هذه الحوارات، أدركت أنّه قادر لا على أن يتلبّس بلَبوس الفلاّح فحسب؛ وإنّما بلبُوس الدركيّ والبيروقراطي أيضا. نعم، هذا هو الكاتب. وكنت، وهو يقرأ؛ أستذكر أغنية قديمة معروفة جدّا في بلاد المغرب: «مع الكرّيطة» [عربة اليد]، أغنية موجعة كلّها فكاهة سوداء؛ تناسب المسرحيّة، كما ينبغي حقّا. وأقول وأنا أصغي إليه، الحقيقة هذه هي العربيّة المحكية وقد تُرجمت إلى الفرنسيّة. ويكفي أن نعيد الكتابة باللغة الأمّ وفيها، لنقف على القريحة نفسها، تلك التي تنبض في الأغنية. وهكذا بعد نصف قرن من الزمن، فإنّ الكاتب المسرحي ومؤلّف الأغنية، هما معا هنا؛ ليشهدا بأنّ الفلاّح لايزال محصورا بين البيروقراطيّة والقوات المسلّحة. ولقد تفاقمت حالته، والفرق الوحيد أنّ أخوته هم الذين يذيقونه الأمرّين، هذه المرّة. إنّ المسرح يفضي إلى طريق السخرية المسدود. وهذا ليس إلاّ مظهرا خادعا. وإذا كان الفلاّح لا يردّ الفعل، فلا يعني ذلك أنّه عديم التفكير. هو يتلقّى الضربات الموجعة ويتحمّلها ويخزّنها. هو يعي. والوعي يستدعي الفعل.
كاتب تونسي
منصف الوهايبي
ممتع حقّا.. كاتب ياسين بقلم تونسي.. شكرا للأستاذ وأتمنّى أن ينشر بقيّة هذا النص.