تغيب الرئيس الكوبي فيدل كاسترو عن المشهد لسنوات قبل وفاته، وبالنسبة لرجل من طرازه كان ذلك بروفة للموت، فزعيم الدولة الشيوعية الوحيدة التي صمدت في النصف الغربي من الكرة الأرضية كان يعيش تحت إضاءة كثيفة ليمثل أيقونة تمشي على قدمين، والجزء المتبقي، من جيل كامل من زعماء التحرر، ويمكن أن شخصيته الطاغية جعلته أكثر حضوراً من رجال كانوا يستحقون بعضاً من الضوء مثل أميلكار كابرال من غينيا بيساو وعمر توريخوس من بنما، ومع ذلك، وعلى الرغم من كل ذلك، فإن كاسترو ليس إلا فصلاً واحداً من قصة كوبا، الجزيرة التي تمثل بالنسبة للأمريكيين بوابة خليج المكسيك أحد المقدسات الاستراتيجية بالنسبة لواشنطن، والمفارقة أن الأرض الخصبة للثورة في أمريكا اللاتينية لم تستطع أن تقدم نبتاً يشبه السكر الكوبي (المر)!
كوبا أرض الخطايا والموبقات، جزيرة الملذات السرية والقوانين المطاطة، هكذا أرادها الأمريكيون على امتداد نحو ستين عاماً أتبعت اتفاقية باريس 1898 وحتى ليلة رأس السنة 1959 التي شهدت انتصار الثورة الكوبية والانتقال المفاجئ والدوران لمئة وثمانين درجة تجاه موسكو ليشكل الأمر تهديداً غير مسبوق للأمريكيين، حتى مع قياسه بالهجمة اليابانية على بيرل هاربر، ولذلك كانت خسارتهم للجزيرة الكوبية صدمة كبرى جعلتهم يضعون العالم على هاوية حرب نووية أو في النقطة الأقرب للقفز في الجحيم.
تفاصيل الأسابيع الأخيرة من رحلة الثورة في كوبا تبقى واحدة من الألغاز الأمريكية، خاصة أن التقدم الثوري كان يحدث أثناء فترة الرئيس أيزنهاور صاحب المبدأ الشهير لحماية منطقة الشرق الأوسط من التمدد السوفييتي، ومما سيبقى مبهماً إلى حد بعيد هو موقف الأمريكيين من الثورة والاسترخاء الذي أبدوه بينما يقطع الثوار المسافة بين سانتا كلارا وهافانا.
قصة كوبا والولايات المتحدة مليئة بالأسئلة المفخخة، فالكوبيون كانوا الشوكة الموجعة في الهيبة الأمريكية في الستينيات والسبعينيات، وحتى مع تراجع السوفييت في الثمانينيات فإن السلوك الأمريكي تجاه كوبا بقي متحفظاً، واكتفى الأمريكيون بمشاهدة كوبا في معاناة متواصلة ومقاومة صعبة مع المتاعب الاقتصادية التي ترتبت على انحلال مجلس التعاون الاقتصادي الذي قدمت من خلاله موسكو وعواصم أوروبا الشرقية الدعم للدول الشيوعية خارج القارة، وهو ما كان يعني حصرياً كوبا وفيتنام في مرحلة من الزمن، الأمريكيون لم يمتلكوا الرغبة في الإجهاز على كوبا أو كاسترو، كانوا يتطلعون إلى أن يتساقط على الطريقة السوفييتية، وأن يكون المشهد الختامي لأسطورته بانصراف متابعي خطاباته المطولة للالتحاق بطوابير مطاعم الهامبرغر والدجاج المقلي الأمريكية.
تحملت كوبا الكثير في الفترة التي وصفت رسمياً بالمرحلة الخاصة في زمن السلام للتعبير عن الأوضاع الاقتصادية المتردية، ولكن هافانا بدت متماسكة ولم تتعرض للمصير نفسه الذي أدركته بوخارست ووارسو وبرلين الشرقية، وعلى العكس من ذلك، فبقاء كاسترو وحيداً جعله يستأثر بمكانة قيادية في بقايا ما يعرف بالعالم الثالث.
ثلاثة أسباب يمكن للمتابع أن يتفهم من خلالها السر وراء استمرار كاسترو بعد انهيار التجارب الأخرى، وهذه الأسباب، ودون ترتيب، على النحو التالي:
بعد فناء الشعب الأصلي لكوبا نتيجة تضافر ثلاثية الأسلحة والجراثيم والفولاذ كما وصفها جارد دايموند في كتابه الشهير، تحولت الجزيرة لاستقطاب العبيد الأفارقة الذين عملوا في ظروف بعيدة عن أي حس إنساني، وكان المهاجرون الاسبان يمثلون طبقة السادة في المجتمع الكوبي حتى بعد تنازل اسبانيا عن الجزيرة في نهاية القرن التاسع عشر، وعلى الرغم من انتماء كاسترو للطبقة العليا في المجتمع من أصحاب الأصول الاسبانية من المثقفين والتكنوقراط، إلا أن ايمانه بالعدالة الاجتماعية كان حقيقياً وأصيلاً في شخصيته، وبالفعل كانت سياساته تفتح الباب أمام مجتمع غير طبقي في بلد تجذرت فيه التباينات الطبقية لقرون من الزمن.
واستطاع كاسترو أن ينتصر على وجهه البرجوازي الذي يدفعه للإعجاب بالحياة المريحة والثقافة الأوروبية، بما فيها تشجيع فريق أرسنال الإنكليزي، ليصبح أكثر اقتراباً من الكوبيين بوصفهم شعباً متجانساً على الرغم من اتساع الأخدود التاريخي بين شطريه الأوروبي والافريقي.
لم تعرف كوبا فرقاً للموت أو معتقلات سرية، كما لم يكن التعذيب منهجاً في ممارسة السلطة، فالديكتاتور كاسترو لم يخلط استبداده وتفرده بالرأي بممارسة العنف بصورة وظيفية في كوبا، ولم يكن يمكن أن يوضع بأي شكل في الخانة ذاتها التي اشتملت على تلامذة ستالين الصغار مثل تشاوشيسكو وبول بوت، وحتى أنه كان أقل ميلاً واستعداداً للبطش بخصومه من رجال معتدلين في المعسكر الاشتراكي مثل تيتو وخارجه مثل عبد الناصر.
سعى كاسترو دائماً لتوجيه التنمية لخدمة الشعب الكوبي وتعزيز إمكانياته البشرية، فكانت الجهود التنموية وضمن المتاح اقتصادياً تتوجه للخدمات الصحية والتعليم والرياضة، ولم يعرف عنه الهوس بالمباني الضخمة أو المشاريع العملاقة التي توفر له فرصة الحصول على مجموعة من الصور التاريخية التي يمكن تسويقها على أساس أنها منجزات منقطعة النظير.
بالطبع هذه الأسباب تشكل سياقات عامة، يمكن الحصول على بعض التجاوزات هنا أو هناك، ولكنها لا تشكل في شخصيته الكلية سوى ما تفعله البثور الصغيرة في وجه أنضجته الشمس المدارية وأنفاس حقول القصب والتبغ، كما أن أهميتها لا تنفي أسباباً أخرى لبقاء التجربة الكوبية حتى بعد ربع قرن من انهيار المنظومة السوفييتية، وبالتأكيد تأتي في المقدمة الذاكرة السلبية مع الأمريكيين الذين كانوا يعتبرون كوبا بوصفها غوانتنامو كبيرة، حيث يمكن أن يطبقوا جميع المخالفات التي يحظرها القانون والدستور في الولايات المتحدة، والأرض المجانية والحرة للهدنة مع عصابات المافيا، والوديعة الملقاة دون اكتراث بين يدي ديكتاتور منفصل عن الشعب ومستسلم لفكرة التبعية المطلقة لليانكي على الشاطئ الغربي للأطلسي.
برحيل كاسترو يطوى عصر العالم الثالث برمته، ومعه ملفات أخرى كثيرة، ويمكن القول أن العصر الكوبي الجديد سيتزامن مرة أخرى مع عصر أمريكي مختلف، فحضور كاسترو أو غيابه لا يؤثر في حقيقة أن الجزيرة الكوبية ستحتفظ بخصوصيتها وحساسيتها للعالم الأمريكي، ويمكن القول أن الإعلام الأمريكي نفسه كان عاملاً إضافياً في تعزيز صورة كاسترو في العالم وأن جميع حملات التشويه كانت تصب في صالحه في النهاية، فالرجل دفع الأمريكيين لرقصة طويلة من السالسا على زجاج الغرور الأمريكي والعناد الكوبي، ويبقى، في عالم ما بعد كاسترو، السؤال الذي طرحه جورج بوش (الصغير) ببساطته، لماذا يكرهوننا؟ ما زال بحاجة لإجابة حقيقية ومقنعة.
كاتب أردني
سامح المحاريق