كاليغولا معبود الجماهير!

حجم الخط
1

«كان يمكن أن تهدأ أعصابه ويصفو تفكيره، لو كانت قد أتيحت له حياة هادئة يعمل فيها عملا يتحمل تبعاته، لكن سم السلطة ذهب بعقله، لأن صحة العقل كالحكم تحتاج إلى ضوابط موازين، وما من أحد من بني الإنسان تُعطى له سلطة مطلقة تمكنه من فعل ما يشاء بدون حسيب ولا رقيب، ويظل في الوقت نفسه سليم العقل».
هكذا يفسر المؤرخ ويل ديورانت التحولات التراجيدية التي مر بها الإمبراطور الروماني جايوس الشهير بكاليغولا، الذي حمل هذا اللقب في وقت مبكر من حياته، لأنه نشأ بين الجنود والتصق بهم، فحمل لقب كاليغولا أي الحذاء العسكري الصغير تدليلا له وليس حطا من مقامه، ولذلك استبشر الناس حين بدأ حكمه كأفضل ما يكون، فأعلن أنه سيسير على المبادئ التي كان يسير عليها أغسطس العظيم في سياسته، وأنه سيشرك مجلس الشيوخ في قراراته، ووزع على المواطنين عطايا ومنحا مالية كان قد قررها لهم سلفه تيبيريوس، وأضاف إليها مخصصات لكل مواطن من المئتي ألف الذين كانوا يحصلون على الحبوب كدعم من الدولة، وأعاد إلى الجمعية التشريعية حق اختيار كبار الحكام، ووعد بتخفيض الضرائب، وقام بإرجاع الذين كان سلفه قد نفاهم، فبدا للجميع أنه سيكون على النقيض من سلفه في كل شيء، ولم يمض على اعتلائه العرش ثلاثة أشهر، حتى قدّم الناس للآلهة مئة وستين ألفا من الضحايا والقرابين، شكرا لها على أن وهبتهم «زعيما فاتنا محسنا».
تضاعفت فرحة الجماهير بقرارات الحاكم الجديد، بعد انبهارهم بمهارته في المبارزة والمجالدة وركوب العربات، وهو ما جعل البعض ينسون نفورهم في البدء من ملامح وجهه الحادة والغريبة، لكن الجميع لم يعرفوا أن زعيمهم المحبوب النشيط يعاني من مشاكل عقلية خطيرة، وأنه كان مصابا بأرق مرضي يجعله يطوف ليلا في جنبات قصره الواسع يصيح طالبا طلوع الفجر، وأنه كان يختفي أسفل سريره إذا سمع هزيم الرعد، ويفر مذعورا إذا شاهد اللهب فوق بركان إتنا، وأنه أصيب بعد فترة قصيرة من توليه الحكم بنوبات صرع أثرت على قواه العقلية، فجعلته يعجز في بعض الأحيان عن المشي والتفكير.
أدرك كاليغولا أن السلطات الواسعة التي منحت له، والتي دعمها حب الجماهير، تكفل له أن يفعل ما يشاء وينجو من عواقب كل أفعاله، فلعبت السلطة برأسه في وقت قياسي، فتوقف عن إظهار احترامه لمجلس الشيوخ، وبات يصدر له الأوامر والفرمانات ويطلب الخضوع الفوري لها، وطلب من الشيوخ الموقرين أن يقبلوا قدميه تعظيما له وتبجيلا، وأمرهم بتوجيه الشكر له على أنه شرفهم بتقبيل قدميه، وأظهر إعجابه بأساليب الحكم في مصر القديمة، وبدأ يفكر في أن يعبده الناس كإله، كما كان الفراعنة يعبدون ملوك مصر الأقدمين، وأخذ يفكر في نقل عاصمة ملكه إلى الإسكندرية، ولم يحل بينه وبين تنفيذ قصده إلا اعتقاده بأن أهلها ليسوا أذكياء، لكنه بدأ في تطبيق العادات المصرية القديمة في معاملته مع أخواته، فأوصى بأن تكون أخته دروزلا وريثة عرشه من بعده، وأرغمها على أن تطلق زوجها، وأخذ يعاملها كأنها زوجته الشرعية، وحين نصحته جدته أنطونيا هددها بقوله «إذكري أن في مقدوري أن أفعل أي شيء بأي إنسان»، وذكر لضيوفه في إحدى الولائم أن في وسعه أن يقتلهم كلهم وهم متكئون في مقاعدهم، وكان وهو يحتضن زوجته أو عشيقته يقول لها ضاحكا «سيطاح بهذا الرأس الجميل بكلمة تخرج من فمي».
مع مرور الوقت استفحل هوسه الجنسي، فأخذ يرسل إلى النساء اللاتي كان يحبهن رسائل باسماء أزواجهن يبلغهن فيها نبأ طلاقهن، ولم توجد امرأة ذات مكانة إلا دعاها إليه، ولم تمنعه صِلاته الجنسية بعشاق من كلا الجنسين من أن يتزوج أربع مرات، حضر مرة زفافا فأعجبته العروس فأخذها إلى بيته، وتزوجها ثم طلقها بعد بضعة أيام، وحين سمع أن هناك امرأة اسمها لوليا بولينا بارعة الجمال استدعاها إليه، وطلقها من زوجها وأمرها ألا تكون لها منذ ذلك اليوم علاقة بأي رجل، وكانت زوجته الرابعة سيزونيا حاملا من زوجها حين تزوج بها، ولم تكن صغيرة السن أو جميلة، لكنه أحبها وأخلص لها الحب.
لم يقتصر عبث كاليغولا الإمبراطوري على هذه الحدود، فقد أمعن في الإسراف في إنفاقه من مال الدولة، حتى أنه كان يستحم بالعطور، ويقيم ولائم ضخمة تكلف إحداها مبلغ عشرة ملايين سسترس، وبالغ في إقامة القصور وبناء القوارب الفاخرة وإنشاء الحدائق التي تحتوي على أشجار فاكهة مطعمة بالجواهر، وكان يحب نثر النقود من شرفة قصره ويراقب بسعادة الناس وهم يتنازعون نزاعا قاتلا على النقود، وأمر مهندسيه بإقامة عدد من المشاريع الهوجاء التي تسببت في إفراغ خزانة الدولة من الأموال التي ملأها بها سلفه تيبيريوس، ما جعله يصادر أموال الأغنياء الذين سبق أن قربهم منه ومنحهم امتيازات كبيرة، ليحكم على كثير منهم بالإعدام، ويفرض الضرائب على كل شيء من الأطعمة إلى أجور الحمالين ومكاسب العاهرات اللواتي فرض عليهن ضريبة تعادل مقدار ما تناله الواحدة نظير عناقها مرة، وقرر القانون أن تظل من كانت يوما ما عاهرة خاضعة لهذه الضريبة وإن تزوجت، وحين اكتشف تدبير مؤامرة لاغتياله، فرض على البلاد عهدا من الإرهاب زاده وحشية حبه الجنوني للأذى، فكان يأمر الجلادين بأن يقتلوا الضحايا بإثخانهم بالجراح الصغيرة الكثيرة حتى يشعروا بأنهم يموتون.
ينقل ويل ديورانت كثيرا من الروايات التي تصور إمعان كاليغولا في التنكيل بمعارضيه، كتقديمه جميع الصُّلع من المساجين طعاما للوحوش التي كان يستخدمها في الألعاب الرياضية، وإرغامه جدته التقية على قتل نفسها، وأمره بنشر رجال الطبقات العليا بالمناشير. يحرص ديورانت على تذكير قارئه بأن بعض رواة هذه الروايات كانوا ميالين للمبالغة، لكنه يرى أن ما هو أخطر من هذه القصص هو أن كاليغولا قام بإشعال نار الحرب بين السلطة والفلسفة التي كان يمكن أن تقوم بفرملة جموحه، وحين تخلص من كبار الفلاسفة بالقتل أو السجن، أعلن نفسه إلها معبودا، فقام بتحطيم رؤوس التماثيل المقامة للأرباب، ووضع في مكانها رؤوسا له، وأقام هيكلا لعبادته، كان يجلس فيه ليتلقى عبادة الناس، وعيّن له جماعة من الكهنة، من بينهم حصانه المفضل، وادعى أن آلهة القمر نزلت إليه وعانقته.
وحين ضج الناس من ظلمه وعبثه، جاءت نهايته على يد الحرس البريتوري الذي طالما اشترى ولاءه بالهدايا والعطايا، حيث قام بقتله ضابط من ضباط الحرس يدعى كاسيوس كائيريا، كان كاليغولا قد أهانه مرات كثيرة بالألفاظ البذيئة، فقتله كاسيوس سرا في أحد ممرات الملهى، ولما انتشر الخبر في المدينة تردد أهلها في تصديقه، وظنوا أنه حيلة من حيل الإمبراطور الخبيث، يريد أن يعرف أي الناس سيبتهج بموته، وأراد الذين اغتالوه ألا يتركوا الناس في شكهم فقتلوا زوجته الأخيرة، وحطموا رأس ابنته بدقها في أحد الجدران، ليعرف كاليغولا بعد فوات الأوان أنه ليس إلها، لكنه لم يعرف أن الجماهير التي أحبته، هي نفسها التي هتفت بحياة من خلّصها منه.

ـ «قصة الحضارة» الجزء الثاني من المجلد الثالث ـ ويل ديورانت ـ ترجمة محمد بدران

٭ كاتب مصري

كاليغولا معبود الجماهير!

بلال فضل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد علي حسين:

    و ما اشبه اليوم بالبارحة

إشترك في قائمتنا البريدية