القاهرة ـ «القدس العربي» كمال القاضي: تمثل الكتابة الأدبية الجديدة تياراً إبداعياً مختلفاً لا يؤمن أصحابة بالمسلمات والقواعد المتعارف عليها، فهم ينزعون إلى اختلاق الصادم والمثير، ولا يكترثون برد الفعل الرافض لتلك الموجة التي تسعى إلى تسييد هذا النمط، وجعله الأهم من بين ما يكتب من أشكال الأدب الكلاسيكي، على مستوى النوع والمذاق. ولاشك أن هذه الجرأة تعد نوعا من التمرد الأدبي والسياسي والثقافي والاجتماعي، تترجمه الأقلام التي تخط وتدون مثل هذه الأصناف والأجناس الإبداعية المغايرة والخارجة على القوانين والأطر الفنية المعهودة في الرواية والقصة والشعر.
اعتبرها بعض النقاد العمل الأدبي الفارق، فهي المجموعة القصصية الأكثر إثارة للجدل، في ما تطرحه من مغاز ودلائل سياسية قد لا تروق لبعض القراء، وقد يراها البعض الآخر عملاً إبداعياً مختلفاً ومهماً ويمثل اتجاهاً أحدث في الشكل والمضمون القصصي. ولعل الكاتب نفسه رأى أنها ستشكل بعض الصور والنماذج الغريبة، فجعل عنوانها على هذا النحو المثير «تأريخ لا يروق لكم» متحسباً الاعتراض أو الجدل أو حتى الرفض، وفي كل الأحوال لا يؤثر ذلك على درجة الانفعال بما هو مكتوب، بل على العكس ربما يؤدي إلى إثارة الفضول أكثر، حيث جرأة الطرح يكون لها عادة إغراء القراءة، خاصة إذا جاءت الكتابة مواكبة لحالة الحراك السياسي ومتجاوبة مع ما تفرزه التيارات السياسية المتصارعة من أفكار ورؤى لها ما لها وعليها ما عليها.
تحت عنوان «اشتباك» يقول الكاتب محمد علي إبراهيم في كتابة هي أقرب إلى قصيدة النثر منها إلى القصة القصيرة، متهكماً ومستهجناً أو محاولاً الوصول إلى معان أبعد من دلالات الكلام، في ما يسميه محاولة أخيرة لدخول أول: القلم الصامت تماماً، والقلب /النرجيلة بركان يغلي/ السلفيون والشيوعيون والليبراليون والملحدون كلهم مجتمعون لموتي/ الخوف يتملك نهى/ نسكت / على نهى الآن أن تنحني جانباً. وفي هامش آخر يكتب على لسان المريد: إذا تبت تاب الله عليّ. وتحت الهامش يردف متقمصاً شخصية رابعة العدوية/ صه يا هذا.
سيولة من الكتابة العفوية تشبه تماماً الهذيان، أو تدل عليه، وهي حالة يقصدها القاص، كي يلفت النظر إلى ما وصل إليه شيوع الأفكار وعدم ترتيبها، بما يمكن أن يفسر على أنه حالة انعدام وزن أو توهان بين لا شيء وكل شيء، في نزوع إلى فلسفة النص القصصي والخروج به عن إطار القص والحكي التقليديين، وتجرؤ على كسر التابو الإبداعي بشكل مثير وعاصف بالذهن والفكرة الثابتة للكتابة القصصية. في عنوان فرعي آخر يسطر الكاتب كلمات غامضة موجهاً إياها لعبد الواحد، ذلك الشخص المجهول فيقول: وردة من دمي أضعها في بستان دمائك، فهل لها مكان لديك؟ ومن تلك التهويمات التي تجمع بين الشعر والقصة في نصفين متعادلين للجملة والحوار والخاطر والمضمون واللغة، يرسم بروفيل فيكتب: الحجاج أبيض/ كلب البحر أبيض/ الحجاج طويل/ سماء الله أعلى منه. كأنه يقارع الوصف بالوصف ويسقط عن الرمز هيبته ووقاره وما يشير إلى قداسته، بدون أن يعرب صراحة عن هوية من يشير إليه، أو يضع ملامحه في إطار يدل عليه.
ولا يقترب محمد علي إبراهيم أكثر من ذلك تجاه شخصيته الهلامية الاعتــــــبارية، خوفاً أو عمداً كي تظل الصورة مثــــيرة، ويبقى الرمز المشار إلية غائباً وغامضاً فيكون قد كتب ولم يكتب وقال ولم يقل وأشار ولم يشر، هي حيلة قصصية تحمل من سمات الحزورة، ما يحـــــمي صاحبها ويضـــع حول سطـــــوره الكثـــــير من علامات الاستفهام والتعجب، إذ يكتمـــل النص ولا يكتمل وتتسع الرؤيــــة لمعانيهــ، ولكنها تضيق حين يستعصي الفهم والإدراك ويعجز القارئ عن الإلمام بما يرنو إليه القاص وتهدف إليه نصوصه الواقعة بين حداثة الشعر وحداثة القصة، في تنويع وامتزاج هو جديد أيضاً على ذائقة القارئ الذي اعتاد التعاطي التقليدي لصنوف الإبداع، بدون أن يدرب عقله ووجدانه على استقبال أنماط الحداثة وما بعد الحداثة، وما بعد بعدها حتى لا يصاب بهستيريا القراءة.
«تأريخ لا يروق» لكم عمل إبداعي يبدو مدهشاً عن بعد، ولكنك حين تستغرق في قراءته ستشعر بغربة قاسية بينك وبين النصوص، وإن كان من بينها ما يستدعي التأمل والوقوف طويلاً أمام مهارة المزج وإبهار اللغة والفكرة، وربما ذلك ما لفت النظر إلى الكتابة وماهيتها وإيقاعها ووضع القارئ في حيرة ما بين الرفض والإعجاب.