كتابة الكابوس السياسي و«باروديا»الخطابات التونسية

حجم الخط
0

اختار الكاتب عبد الجبار المدوري أن ينطلق في روايته من خبر أسود أو مشؤوم وهو اقتحام «داعش» لمدينة قفصة وسيطرتها عليها، خبر خيالي طبعا وحكاية خيالية لا ترتبط بشخوص ولكن بشأن عام.
ويبدو أن الرجة التي يمكن أن توقعها هذه الحكاية جعلت الكاتب يصر على أن يضيف إلى عتبات روايته وفي غلافها الخارجي إشارة مفادها أن روايته «خيال سياسي».
تلتقي الرواية مع الأسلوب التسجيلي المعتمد سرديا في تسجيل بعض الأحداث والوقائع بكتابة لا تميل إلى الخيال الواسع وإنما باستحضار مجريات الأحداث لكن الفرق بين هذه الرواية وتلك الروايات في هذا المجال أن المدوري يسجل ما لم يحدث. الرواية خيالية ولكنها تستحضر الواقع، فليس كل ما في صفحاتها من باب الوهم والبراءة، فخطاب الرواية على سماته البسيطة لم يخل من نوايا ومواقف.
حكاية حدث خيالي لم يقع ولكن الخيال فيها يتصل بالذاكرة وبالحياة اليومية، إنها حكاية كابوس مخيف فرضته الأحداث المتواصلة في المنطقة وما يروج من تهديدات ومخططات وما يقع من أحداث إرهابية وما تعرفه البلاد من صدمات نتيجة لهذه الوقائع، وربما هي الكتابة في لحظة تشاؤم من الوضع الراهن، وهي كتابة خوف من المستقبل في الوقت نفسه، ولكنها كتابة لا تعدم الذاكرة… فهذا الحدث المتخيل يكاد يكون استنساخا لحدث تاريخي هز تونس في الثمانينيات في المكان نفسه وهو ما اصطلح عليه بأحداث قفصة التي دارت رحاها في هذه المدينة التي تقع في الجنوب التونسي، التي يذكرها الناس بالإذاعة التي كانت تبث آنذاك «هنا قفصة» وقد وقعت هذه الأحداث زمن حكم بورقيبة وقبل بعث الإذاعة الجهوية بقفصة التي سيطر عليها الدواعش في هذه الرواية.
تبدأ الرواية بتلقي الصحافي وليد لمكالمة مفاجئة من رئيس تحرير جريدته «أفق يا وليد ألم تسمع الأخبار… لقد سيطرت «داعش» على مدينة قفصة في الجنوب التونسي». فسارع إلى التلفزيون ليتأكد من الخبر بصياغته الرسمية «مجموعة إرهابية كبيرة تهاجم مدينة قفصة في الجنوب التونسي وتسيطر عليها بالكامل».
وهكذا اتخذت الأحداث وجهتين وجهة أولى أخذها الصحافي وليد تتعلق بمتابعة الأخبار وإعداد التغطيات الصحافية تطلبت منه النزول إلى الميدان والتوجه نحو مكان الحوادث. ووجهة أخرى اتخذتها الأحداث التي استمرت أياما وانتهت بإعلان الجيش التونسي النصر على الغزاة وطردهم وخروج الشعب التونسي للاحتفال.
هذا ملخص الحكاية ذات الطابع الكابوسي وما من شك أن هذا النوع من التخييل السردي لأحداث عامة من ممكنات السرد الروائي وخياراته، ولكن عبدالجبار المدوري حجب عنا تفاصيل كثيرة، ذلك أن السرد اتخذ طابعا خارجيا ولم يقتحم أعماق الحدث مكتفيا بمتابعة التعامل الإعلامي والصحافي مع الحدث، ومستندا إلى الكتابة الصحافية و إلى يوميات الصحافي وليد.
لا يعتبر الاستناد إلى الخطاب الصحافي والقصاصات الصحافية إخلالا بالسرد الروائي، فهو من علامات الكتابة الروائية الجديدة التي تبيح الحيز الروائي لمختلف أصناف الكتابة ولمختلف الخطابات فالقصاصات الصحافية تسهم في إخصاب الرواية الجديدة وتلوينها، وقد اعتمد عبدالجبار المدوري هذه التقنية الروائية بكثافة، حيث عجت روايته بمقتطفات متخيلة من المقالات الصحافية من أخبار وريبورتاجات فنقرأ نقلا عن جريدة «الشموع» – وهي جريدة متخيلة كذلك -جملة من المقالات بعناوين مختلفة منها:
«*داعش» تسيطر على مدينة قفصة في الجنوب التونسي
*رئيس الحكومة يدعو إلى اجتماع طارئ بمكونات المجتمع المدني
*نزوح بعض العائلات هربا من «داعش»
*المتحدث باسم المجلس الأعلى للأمن الوطني:
عدد الشهداء ليس كبيرا والإرهابيون فاجأونا وردنا سيكون قويا
*الجزائر تعبر عن استعدادها لمساعدة تونس عسكريا
كيف سيطرت «داعش» على قفصة؟
هكذا استمر السرد مزاوجا بين صوت الراوي الضمني يقص حكاية وليد وتحركاته وصوت الصحافة ممزوجا بجملة من الخطابات الإخبارية والسياسية.
هي لعبة خيالية ولكن الجانب العميق فيها، الذي يحمل الرسائل الحقيقية هو أسلوب نقل الخطابات الداخلية فبتتبع الأقوال الواردة في الرواية نكتشف أن الكاتب أقام روايته على تقنية المحاكاة فثمة محاكاة دقيقة للخطابات السائدة في المشهد التونسي وهي خطابات ألفها التونسيون في الأحداث المهمة… محاكاة واسعة لا تخلو من سخرية ومن تذمر.
إن المحاكاة الساخرة أو ما يسمى بالباروديا أحد أهم الأساليب في نقل خطاب الآخر، فتكون لهذا الخطاب نبرتان… نبرة قائله ونبرة الراوي الذي يعيد نقله وقد يعمد إلى تحريفه أو تقليده أو نقده، ولعل أبرز الخطابات التي تمت محاكاتها بهذه الطريقة هي الخطابات السياسية الصادرة عن الحكومة والأحزاب والتعامل الإعلامي مع الحدث.. فالخطاب الحكومي متحفظ ومقتضب: «أعلن منذ قليل الناطق باسم رئاسة الحكومة أن رئيس الحكومة التونسية وجه دعوة عاجلة إلى كل مكونات المجتمع المدني من أحزاب سياسية وجمعيات مدنية ونقابات وغيرها للاجتماع في مكان لم يقع الإعلان عنه لدواع أمنية. ولم يقدم الناطق باسم الحكومة أي إيضاحات أخرى، لكن الأكيد أن هذا الاجتماع سيكون مخصصا للمستجدات الأخيرة…». أما الأحزاب فـ»أدانت الهجوم الإرهابي واعتبرته مؤشرا على تفاقم الوضع». أما القنوات الوطنية فلا تحصل على الرضا كالعادة، «نظر نور الدين إلى جهاز التلفزة المثبت على الجدار وقال:
حسب القناة الوطنية لا جديد يذكر
قال أشرف:
القناة الوطنية فشلت مرة أخرى في أن يكون لها السبق الصحافي، رغم أن الجهات الرسمية هي المصدر الوحيد للمعلومة».
كما يحاكي المؤلف مشهد الندوات الصحافية وما فيها من تأخير واقتضاب:
«كان من المفروض أن تنطلق الندوة الصحافية في الثانية بعد الزوال حسبما صرح به الناطق باسم الحكومة لكنها تأخرت إلى ما بعد الثالثة مساء».
على هذا النحو من محاكاة الخطابات السائدة في المشهد التونسي ينسج عبدالجبار المدوري روايته… محاكاة تتخفى وسطها رؤى الكاتب ومواقفه من الراهن وتلوح الصورة التي يرسمها فتتبع مسالك هذه المحاكاة يفضي بنا إلى العثور على الكثير من دلالات الرواية.

٭ ناقد تونسي

كتابة الكابوس السياسي و«باروديا»الخطابات التونسية
رواية «الليالي السود» لعبد الجبار المدوري
رياض خليف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية