يعتبر كم فيلبي (1912 ـ 1988) أشهر وأخطر جاسوس في التاريخ على الإطلاق، ليس فقط لتبوئه مناصب مرموقة في جهاز المخابرات الخارجية البريطاني (MI6) ولاعتقاد الكثيرين أنه كان سيصبح رئيسا لهذا الجهاز ذي السمعة الأسطورية، وربما رئيسا للوزراء في بريطانيا، بل أيضا لأنه كان طوال الوقت عميلا سوفياتيا، وكان أهم مصدر معلومات للسوفيات داخل جهاز المخابرات البريطاني. وكان كذلك البريطاني الوحيد الذي حصل على أوسمة من دول في حالة عداء مع بعضها بعضا، فقد حصل على وسام ولقب من الحكومة البريطانية لإنجازاته في خدمة بريطانيا، ثم حصل على وسام من الحكومة السوفياتية، وقبل هذين الوسامين كان قد حصل أثناء الحرب الأهلية الإسبانية (1936 ـ 1939) على وسام من الجنرال فرانكو رئيس جمهورية إسبانيا لاحقا، الذي كان مدعوما من قبل ألمانيا النازية.
ولم يكن فرانكو يعرف إن فيلبي كان جاسوسا سوفياتيا وإن المخابرات السوفياتية ناقشت فكرة اغتيال فرانكو نفسه، ولكن الفكرة لم تنفذ. كان فيلبي أحد أعضاء مجموعة صغيرة من خمسة عملاء للسوفيات، عملوا موظفين بارزين في جهاز المخابرات الخارجية والسلك الدبلوماسي البريطانيين، وكانوا ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية الإنكليزية. وسميت المجموعة «زمرة كامبريدج الخماسية» (The Cambridge Five) لأن جميع أعضائها كانوا طلابا في جامعة كامبريدج الشهيرة.
وقد اكتشفت أجهزة المخابرات البريطانية في ما بعد أربعة منهم، ولكن الغموض لا يزال يحوم حول العضو الخامس حتى الآن، والتكهنات والاتهامات كثيرة. ولكن «فلبي» كان الأبرز بين هؤلاء الخمسة داخل جهاز المخابرات البريطاني، والأكثر غموضا حول أهدافه، والأبرع في خداع الجميع.
جاسوس بين الأصدقاء
صدر الكثير من الكتب حول قصة فيلبي ورفاقه، كما كانت الحكاية مصدر إلهام لقصص خيالية، وأشهرها كانت لجون لكاري (أشهر مؤلف للقصص الخيالية عن الجاسوسية حاليا، وموظف سابق في جهاز المخابرات الخارجية البريطاني) التي أصبحت مادة لمسلسل تلفزيوني شهير. أما آخر هذه الكتب التي تحدثت عن تاريخ فيلبي وزملائه فقد كان كتاب «جاسوس بين الأصدقاء» (2014) للكاتب البريطاني بن ماكنتاير، الذي يعد أشهر مؤرخي عالم الجاسوسية حاليا، وهذا الكتاب هو عمله العاشر في هذا المجال. وكلمة «الأصدقاء» هنا ترمز إلى المخابرات الخارجية البريطانية، مثل كلمة «الشركة» التي ترمز إلى وكالة المخابرات المركزية. وقد كتب الكتاب بشكل سلس وأسلوب مشوق، ولكن هذا لا يعني أنه كان بدون نقاط ضعف.
عالم فيلبي
يتناول الكتاب صفات المجتمع الأرستقراطي الإنكليزي ونوعية الأشخاص الذين كانوا يعملون لدى المخابرات الخارجية قبل الحرب العالمية الثانية، فقد كانوا جميعا من الطبقة الأرستقراطية في المجتمع البريطاني، ودخلوا المدارس الابتدائية والثانوية نفسها، وتخرجوا في الجامعات نفسها، ولذلك فإنهم جميعا كانوا يؤلفون نوعا من النادي، لأنهم كانوا أكثر من زملاء عمل بسبب العوامل المشتركة الكثيرة بينهم. أما فيلبي فبالأضافة إلى كونه من الطبقة الأرستقراطية فقد كان والده سينت جون فلبي، الذي كان أحد أبرز المسؤولين البريطانيين في الشرق الأوسط أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، ولعب دورا مهما في العراق في تلك الفترة، ثم أصبح مستشارا لعدد من ملوك المملكة العربية السعودية. وقد عرف باسم «الشيخ عبدالله» حيث اعتنق الإسلام ولكن هذا لم يمنعه من الإدمان على الكحول والتحرش غير اللائق بالنساء. ولكن فيلبي اختلف عن الجميع في عدة معايير، حيث أنه تزوج لفترة من امرأة نمساوية شيوعية وانضم إلى المخابرات السوفياتية للتجسس على بلده. وذهب فيلبي إلى إسبانيا بحجة كونه مراسلا لجريدة «التايمز» الشهيرة، وهناك كان مؤيدا في مقالاته للجنرال فرانكو وفي الوقت نفسه كان يرسل تقاريره المفصلة للسوفيات. وبعد ذلك دخل المخابرات الخارجية البريطانية بسهولة بسبب خلفيته الاجتماعية، وأصبح أحد النجوم فيها، نظرا لعمله الدؤوب ووسامته وشخصيته الساحرة التي جعلته محط الأنظار، فحتى أعداءه في ما بعد أقروا بتاثير شخصيته على من حوله وبشكل خاص النساء. وكان فيلبي يرسل معلومات مهمة للسوفيات، حيث كان يلتقي برجل مخابرات سوفياتي في لندن وكاد أن ينكشف أمره في إحدى المرات، لولا أن الحظ وسيطرته على أعصابه أسعفاه. وارتقى فيلبي بسرعة في جهاز المخابرات، وتم تكليفه بإدارة المخابرات البريطانية في تركيا قبل أن يعود إلى بريطانيا، ويصبح مسؤولا عن قسم الاتحاد السوفياتي فيها. وكان يرسل معلومات كاملة عن الجواسيس الغربيين في الاتحاد السوفياتي، بالإضافة إلى معلومات عن عمليات التجسس الغربية في أوروبا الشرقية، التي وظفت مواطنين محليين، وكانت النتيجة إعدام الكثيرين، وفشل كل مهمات التجسس التي قامت بها المخابرات البريطانية هناك. وبعد ذلك أصبح مسؤول المخابرات البريطانية في الولايات المتحدة، والمشرف على التعاون الاستخباراتي بين البلدين، ومطلعا على المراسلات بين رئيس الوزراء البريطاني والرئيس الأمريكي، وفي أثناء ذلك كان لا يكف عن إرسال المعلومات للسوفيات، الذين لم يثقوا أحيانا بصدق المعلومات، لأنهم لم يصدقوا أن البريطانيين لم يكتشفوا حقيقة فيلبي حتى الآن، ولذلك فقد اعتقدوا أحيانا أنه كان عميلا مزدوجا. ولكن مشاكل فيلبي بدأت عام 1951 عندما اكتشف أن المخابرات البريطانية، بدأت تشك جديا بخيانة ماكلين أحد أعضاء زمرته فطلب من عضو آخر في الزمرة وهو برجيس تحذير الرجل والطلب منه الهروب إلى الاتحاد السوفياتي، ولكن النتيجة كانت كارثة بالنسبة لفيلبي لأن الرجلين هربا معا، وكان من المعروف لدى الجميع أن برجيس لم يكن فقط صديقا مقربا جدا من فلبي، بل أنه كان ساكنا معه في المنزل. ولذلك فقد حامت الشكوك حول فيلبي وبدأت التحريات عنه، وتسربت تفاصيل الحكاية لتصبح حديث الصحافة والناس، واستمر الحال على هذا المنوال لعدة سنوات حتى عام 1955 عندما أعلن وزير الخارجية البريطاني هوارد مكميلان في مجلس النواب براءة فيلبي، لكن المفاجأة كانت أمريكية حيث أبلغت المخابرات الأمريكية مثيلتها البريطانية أن فيلبي كان عميلا سوفياتيا، وأنها ستوقف تعاونها معها إن لم تقم بإجراء مناسب ضده. وهنا بدأ الجانب البريطاني بالعمل من جديد ففصل فيلبي من وظيفته في المخابرات، ولكنها قامت بتعيينه مراسلا لأشهر الصحف البريطانية في بيروت، وليصبح عميلا للمخابرات البريطانية بعد أن كان موظفا، وقام بزيارة العراق والأردن والكويت ومصر عام 1958. ولكن النهاية كانت عام 1963 عندما تأكدت المخابرات البريطانية من خيانة فيلبي وأرسلت أحد أبرز موظفيها، الذي كان من أقرب أصدقاء فيلبي للتحقيق معه. وبعد بضع جلسات تحقيق هرب فيلبي من لبنان باتجاه الاتحاد السوفياتي، حيث بقي في موسكو حتى وفاته هناك عام 1988.
حكايات سينمائية
يتناول الكتاب مجموعة من أشهر الأحداث المثيرة للجدل في عالم الجاسوسية، مثل قصة الخادم الألباني الخاص للسفير البريطاني في تركيا أثناء الحرب العالمية الثانية، الذي كان يصور أوراقا بالغة السرية كان السفير البريطاني يجلبها للمنزل، ثم يقوم الخادم ببيع الصور للسفارة الألمانية، ولكنه اكتشف بعد ذلك أن النقود التي استلمها منهم كانت مزورة، لأن الألمان لم يثقوا بالمعلومات التي قدمها هذا الخادم. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية قام الخادم برفع قضية على الحكومة الألمانية الغربية مطالبا بتعويض، بدون أن ينجح وانتهى به المطاف إلى العمل بوابا لأحد الفنادق السيئة السمعة. وقد أنتج فيلم شهير اسمه «خمسة أصابع» عن هذه القصة عام 1952 من تمثيل الممثل البريطاني جيمس ميسن. وقصة مثيرة أخرى تناولها الكتاب وهي زيارة الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف لبريطانيا على متن سفينة عام 1956، حيث قامت المخابرات البريطانية يوم التاسع عشر من شهر نيسان/أبريل بإرسال غواص لتصوير مروحة واسفل السفينة، حيث أنها كانت قد استلمت معلومات مفادها أن السوفيات اخترعوا مروحة جديدة وأجهزة سونار لتفادي مراقبة الغواصات، ولكن الغواص غاص ولم يعد، فقامت المخابرات بإخفاء العملية بدون جدوى، وتم العثور على جثة الغواص البريطاني بعد ذلك ولكنها كانت بدون رأس ولا يدين.
سذّج وهواة
ويصف الكتاب المخابرات البريطانية وكأنها جهاز مخابرات ساذج والكثيرون من موظفيه من السكارى المعربدين، ولكن كلنا نعرف أنها غير ذلك تماما. وأما المخابرات الأمريكية (CIA) فإنها، حسب الكتاب، لم تكن سوى مؤسسة من الهواة المبتدئين تعلمت الكثير من مثيلتها البريطانية، وهذا أيضا لا يمكن أن يكون واقعيا، وحسب الكتاب أيضا كان عملاء المخابرات السوفياتية يتجولون بكل حرية في بريطانيا ويلتقون فيلبي ويراقبون البريطانيين، كما يشاؤون، وهذا أيضا لا يمكن أن يكون دقيقا. وأما عندما تأكد البريطانيون من خيانة فيلبي أثناء عمله في بيروت، فكل ما فعلوه كان التحقيق معه والتوضيح له تأكدهم من التهم الموجهة إليه، إلا أنهم كانوا من السذاجة إلى درجة أنهم لم يعتقلوه أو على الأقل يضعوه تحت المراقبة الدقيقة! ولذلك استطاع الاتصال بالسوفيات والهروب إلى الاتحاد السوفياتي، كل هذه الأحداث تثير تساؤلات لا تنتهي.
مفارقات غير منطقية
أسهب الكاتب في وصف شخصية فيلبي الساحرة، ولكنه أقر في الوقت نفسه أن الرجل كان سكيرا إلى درجة الإدمان، وأنه كان يتحرش بكل فتاة عندما تسنح له الفرصة، وأقام علاقات مع متزوجات. فهل هذه صفات الجاسوس الناجح والشخص الذي يجذب الآخرين؟ إن مثل هذه العيوب الشخصية تجذب الأعداء ولا تكسب الأصدقاء. ويقول الكاتب إن دافع فيلبي لم يكن ماديا، بل إيمانه بالشيوعية، ولكن لا يوجد دليل واحد على أن فيلبي كان قد قرأ كتابا واحدا عن الشيوعية، أو أنه أبدى أي اهتمام بالطبقة العاملة أو الفقيرة. ومع ذلك يقر الكاتب أن فيلبي كان يستمتع بالخداع إلى درجة غير عادية. وأخيرا فإنه من الجدير بالذكر أن ضابط المخابرات السوفياتية الذي كان مسؤولا عن فيلبي كتب كتابا عنه، وقال إن فيلبي لم يكشف عن حقيقته أبدا وأنه ضحك على الجميع وخاصة السوفيات أنفسهم.
٭ كاتب عراقي
زيد خلدون جميل