عمان-«القدس العربي» بسام البدارين: يقترح وزير الإعلام الأردني السابق والكاتب الصحافي طاهر العدوان، ضمنيًا تشخيصًا للمشكلة التي يتهامس فيها الجميع، فيما يخص ملف الإدارة العليا، وهو يفصح ويشهر كتابه الجديد باسم «المواجهة بالكتابة».
العدوان الذي اختفى نحو ثلاث سنوات عن المشهد العام عاد لإثارة جملة من النقاش عبر كتابه الجديد.
يستعرض تجربته كرئيس لتحرير صحيفة يومية، لكن المحطة الأهم في الكتاب، تلك التي تدور حول مغادرته منصبه الوزاري في عهد الحكومة الثانية للرئيس معروف البخيت، حيث يتحدث شهود في تلك المرحلة عن صعوبات واجهها العدوان في التعايش مع نمط الإدارة.
الناشط السياسي والإعلامي خالد المجالي يلاحظ في مقال له أن أبرز ما لفت نظره هو استعمال الوزير السابق العدوان عبارة «وزراء القصر» في إشارة لعدد من الوزراء وشباب التكنوقراط الذين شكلوا في الماضي وما زالوا يشكلون طاقة متجددة تحت مسمى حكومة الظل.
يعيد العنوان هذا الموضوع إلى مربعه الأول حيث نقاش وجدال عنيفان بجدوى الاستمرار في منهجية الإدارة العليا، بعيدًا عن الالتزام الحرفي بوسائل وتقنيات وشرعية الولاية العامة للحكومة وهو الموضوع الذي يناقش دوما ويطفو على السطح، بين كل مفصل وآخر، وفي عدة مراحل.
يبدو أن ما تثيره هواجس كتاب العدوان يحافظ على مستويات التجاذب تحت عنوان الرغبة، ما إذا كان الاستمرار في إدارة الأمور عبر حكومتين: واحدة علنية تشتبك مع الرأي العام والبرلمان وغالبا ما تكون منزوعة الدسم والصلاحيات وبين وزارة حقيقية أخرى في الظل تستثمر عبر مناخات الأخطاء والهفوات الحكومية وتدير الأمور في الكثير من التفصيلات من دون الخضوع لرقابة الرأي العام ومجلس النواب كما يحصل مع حكومات الواجهة.
وهذا النمط من النقاش ظهر في أكثر من مفصل في عهد الحكومة الحالية برئاسة الدكتور هاني الملقي، حيث نتج عن مشروعات ظل سلسلة تعديلات وزارية أضعفت الحكومة أمام الرأي العام وأدخلت عليها عناصر وخرجت منها أخرى من دون شكل ونمط مفهومين.
وليس سرا أن وزير الداخلية الحالي غالب الزعبي ينتظر مغادرة الحكومة في أقرب وقت، بعدما لوح بالاستقالة إثر مغادرة القاتل في جريمة سفارة الإسرائيلية في عمان من دون تنسيق مع الحكومة وحسب بعض الروايات من دون علمها.
العدوان غادر الوزارة في ظرف مماثل، وهذا ما فعله قبله وزير العدل الراحل حسين مجلي، تحت عنوان: ضعف الولاية العامة والصراع على مسألة الولاية العامة مع مراكز القوى والظل في مستوى القرار، كان السبب المباشر لمغادرة مبكرة لحكومة بأكملها، لو استمرت لأحدثت فارقًا في السياق العام، وهي حكومة الرئيس الدكتور عون الخصاونة الذي استقال تلقائيا في حادثة شهيرة دفاعا عن مبدأ الولاية العامة والدستورية لحكومته.
ثمة في السياق المحلي محطات متنوعة على طريق النزاع مع الولاية العامة، حيث تنمو طبقة من الموظفين في الإدارة العليا تنشط في نهش الحكومة والتأثير في دورها وصلاحياتها من دون تحمل الكلفة في المقابل، وهذه الطبقة هي التي تتراكم وتتكلس في مفاصل الادارة، بحيث تم إضعاف الحكومات عدة مرات لمصلحته.
يبدو حسب الخبراء أن المسألة منهجية، تتعلق بالانحياز لخيار إداري سياسي يحاول كبح جماح السلطة التنفيذية ومنع تفردها بالقرار.
لا يزال ذلك الأسلوب هو المعتمد حتى اللحظة، ويتحدث عنه غالبية السياسيين، ولن يُهزم بعد في الإطار النظري، لأن السبب قد يكون التريث والانتظار مع الإصلاح التدريجي البطيء والعميق وصولا إلى حكومات تشكلها أغلبية برلمانية بكامل الصلاحيات.
لكن ما يحصل يحقق نتائج معاكسة لإرادة الإصلاح، بسبب عدم وجود ضوابط أو فلاتر تحول دون استحكام أو تحكم طاقم الظل في الحكومات، وبسبب صعوبة التمييز بين الرؤية المرجعية المنتجة والشاملة ورغبات الأفراد من الموظفين الذين يتيح لهم قربهم الشديد من مركز القرار الأساسي الاجتهاد والنقل، وأحيانا التأويل، وفي بعض الحالات الاندفاع الشخصي، بحيث تشكلت قوى ضغط داخل الدولة وظيفتها مضايقة الحكومات القائمة.
ولم تنضج بعد الظروف الموضوعية لتغيير هذا النمط، في الإدارة، لكن حجم الإخفاق، وفي عدة مساحات يزيد، والحلقات الوسيطة المكلفة بنقل الرؤية المرجعية لا تلتزم بخلفيات السعي للتعاون البرامجي، ولا تقوم بدورها المنشود بمهنية وحرفية عبر التعامل المسؤول المطلوب في تلك المساحة الضيقة التي تفصل بين الرؤية في مؤسسات مرجعية واظهار التقدير والاحترام لأساس دستوري مهم جدا في الحالة الأردنية، قوامه مبدأ الولاية العامة للحكومة.
اجتهاد الأفراد هنا يختلط بطموحات النفوذ الشخصية عندهم، وسرعان ما تعاني الحكومات من التدخل والتحرش، فيما تنتج شبكة معقدة من المصالح تعبر عن نفسها في بعض الأحيان على شكل شللي يؤدي لاحتكار بعض المواقع والمناصب.
تلك ممارسات لا يمكنها ان تخدم الرؤية الوطنية الشاملة في الإطار المرجعي، ولسبب بسيط يتمثل في عدم وجود سلطة رقابية على تلك المجموعات الشابة التي تنمو في الظل وتحاول التأطير لتجربة يفترض أنها إصلاحية وديمقراطية، لكنها لا تستخدم أدوات الإصلاح والديمقراطية.
وليس سرا أن هذه الفوضى كلها في الإدارة الأردنية العليا تنتج بسببها ظواهر سلبية جدا، من بينها عزوف السياسيين والمسؤولين الكبار عن الوقوف مع الدولة، وأحيانا النظام في الأزمات، ومن بينها أيضا تجذر الاستعصاء في أزمة أدوات الحكم والإدارة.
هنا تحديدا يقدم وزير سابق لـ «القدس العربي» تشخيصا في غاية الدقة عما يجري خلف الستارة والكواليس، حيث لا توجد مخصصات مالية مناسبة للعمل والانطلاق، وحيث توجد طبقة كبيرة من الموظفين الكبار داخل الوزارة لا تحترم الوزير أصلًا، لأنها تؤمن وتعتقد بوجود قوة عابرة له وأكبر منه تدير الأمور في الخارج.
هذا الوضع مربك جدًا، يضيف الوزير، لان عدوى النظرة السلبية للمسؤول الأول في الوزارة سرعان ما تنتقل إلى مجلس الوزراء، ولان رئيس هذا المجلس يترك تماما مهمة الدفاع عن طاقمه الوزاري منشغلًا بتسيير أموره ومكرسًا جل الوقت للقفز بين الألغام على أمل إرضاء مراكز القوى والنفوذ وجميعها في الظل، ومن دون أدنى التفاتة لمسألة الولاية العامة، الأمر الذي ينتج عنه تكريس نوعين من الوزراء: الأول ضعيف ومتهالك ومأسور في ظروف وبيئة العمل، والثاني أقوى من الحكومة أصلًا، لأن صلاته في الظل نافذة وصلبة.
يشكو تقريبا معظم سكان الطبقة العليا في السياسة الأردنية من هذا الوضع المربك، وكل وزير أو مسؤول أول يضعف في النتيجة أمام موظفيه، خلافا لأن أي مسؤول لا يريد اتخاذ قرار حقيقي، مرة خوفا من الرأي العام أو من البرلمان، وأخرى من تقديمه كبش فداء لاعتبارات خارجة عن إرادته وعمله، وحصل ذلك فعلا في عدة حالات مشهودة.